مع غياب quot;ابو سهيلquot;، يغيب جزء من فلسطين. كان حسيب الصباغ وجها من الوجوه المشرقة التي ترمز الى فلسطين الحقيقية، فلسطين التنوع والتسامح، فلسطين التعليم والتطور والأرتباط بالعالم الحضاري. كان بأختصار رمزا للفلسطيني الشجاع والناجح الذي يناضل سياسيا من اجل تحقيق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة. كان quot;ابو سهيلquot; الجناح المدني في حركة النضال الوطني الفلسطيني. لم ينس حسيب الصباغ يوما انه فلسطيني وان عليه ان يوظف نجاحاته في حقل البناء والأعمار في سبيل فلسطين وفي سبيل تحقيق بعض من الحلم الذي يجول في بال كل فلسطيني. كان حسيب الصباغ رجل الخير والعطاء... من اجل فلسطين. لعب الدور المطلوب منه. ادى واجبه. بات في استطاعته الآن ان ينام الآن مرتاحا قرير العين. في استطاعته ان يقول من حيث هو انه كان مخلصا لفلسطين وانه خدمها حتى آخر رمق من حياته. لم يتردد يوما في تقديم كل ما في مقدوره تقديمه من اجل انجاح المشروع الوطني الفلسطيني في حين كان غيره من كبار الأغنياء يتهربون من القضية مستسلمين امام الجاه والثروة. كان ذلك بالنسبة الى هؤلاء البخلاء بمثابة الحل السهل. غالبا ما كان هؤلاء الأغنياء يغطون تقصيرهم بأطلاق الشعارات الكبيرة الرنانة التي تغنيهم عن المشاركة في دعم النضال الفلسطيني، اقله عن طريق تعليم مجموعة من الطلاب او بناء مدرسة او مستشفى. كان حسيب الصباغ على العكس من هؤلاء. لم يتردد يوما في دعم النضال الفلسطيني، خصوصا في مجال تعليم اكبر عدد من الفلسطينيين او مساعدة المحتاجين.
تكمن اهمية حسيب الصباغ، الذي غاب قبل ايام عن تسعة وثمانين عاما، في انه كان دائم الوفاء لفلسطين وشعبها. لم يتخل يوما عن واجباته تجاه الشعب الذي ينتمي اليه. وقد خدم القضية الفلسطينية اولا عندما ساعد فلسطينيون في نهضة لبنان في مرحلة ما بعد النكبة. كان بين تلك النخبة الفلسطينية التي عملت على تطوير الأقتصاد اللبناني وجعل بيروت تلعب دورا مميزا على الصعيد الأقليمي. كانت بيروت في الخمسينات والستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي مقرا للشركات الكبيرة التي تعمل في مجال بناء العالم العربي. كانت بيروت مصرف العرب والمركز المالي الأهم في المنطقة. وكانت المدرسة والجامعة. ولا شك ان رجالا مثل حسيب الصباغ وشركته quot;سي.سي. سيquot; لعبوا دورا في بروز بيروت ونهضتها في تلك المرحلة. كان هناك عدد لا بأس من الفلسطينيين عرفوا باكرا اهمية بيروت وقيمتها. بين هؤلاء ايضا رجل مثل يوسف بيدس الذي اسس بنك quot;انتراquot; وذهب في الستينات ضحية الهجمة على بيروت ودورها وهي هجمة شاركت فيها دوائر اسرائيلية. بقي حسيب الصباغ وفيا للبنان مثلما كان وفيا لفلسطين، هو الذي تخرج من الجامعة الأميركية في بيروت، الى ان عاد اليها ووري في ثرى لبنان.
كيف خدم حسيب الصباغ فلسطين وقضيتها؟ لم يخدمها بالمال فقط. خدمها بأن وظف كل علاقاته العربية والدولية، التي استطاع بناءها بفضل نجاحه في مجال الأعمال، من اجل ان تصير فلسطين على الخريطة السياسية للشرق الأوسط. لم يكن حسيب الصباغ بعيدا عن كل ما من شأنه جعل العالم يعترف بفلسطين وبوجود شعب فلسطيني. لعب دورا رئيسيا في جعل الأدارة الأميركية تتجاوز عقدة التعهد الذي قطعه هنري كيسينجر لأسرائيل والقاضي بالأمتناع عن فتح حوار بين واشنطن ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1989. وقتذاك كان جورج شولتز وزيرا للخارجية الأميركية ولم يكن الرجل بعيدا عن حسيب الصباغ وعن quot;سي.سي.سيquot;. كان quot;ابو سهيلquot; من الفلسطينيين القلائل الذين يعرفون كيف التأثير بشكل ايجابي على الأدارة الأميركية، اي ادارة اميركية، خصوصا منذ وصول الرئيس جيمي كارتر الى البيت الأبيض في العام 1977. كثيرون ينسون ان كارتر كان اول رئيس اميركي تحدث عن quot;وطن للفلسطينيينquot; وكان ذلك في بداية عهده.
في كل ما فعله حسيب الصباغ، كانت هناك ارادة مواجهة اسرائيل ومشروعها التوسعي عن طريق تأكيد وجود الشعب الفلسطيني كشعب يستحق الحياة وممارسة حقوقه المشروعة على ارضه. ترافق كل ما فعله quot;ابو سهيلquot; مع جهد ملموس يصب في رفع المستوى التعليمي لدى الأنسان الفلسطيني. كان العلم والنجاح رأسمال حسيب الصباغ ورفاقه الذين استطاعوا تقديم الفلسطيني الى العالم بشكل حضاري بعيدا عن اي نوع من التزمت.
اشتد المرض على حسيب الصباغ في السنوات السبع الأخيرة. وفر ذلك عليه رؤية المشهد الفلسطيني في ظل الأنقسامات التي تسببت بها حركات متطرفة تستخدم الدين لتشويه صورة الشعب الفلسطيني وقضيته وخدمة الأحتلال الأسرائيلي. كان حسيب الصباغ عملة نادرة. كانت فلسطين كل شيء بالنسبة اليه. حاول دائما حماية الفلسطينيين من الأنزلاق الى المشاكل الداخلية في هذه الدولة العربية او تلك، خصوصا لبنان والأردن. لم يستطع في احيان كثيرة سوى الحد من الأضرار التي لحقت بالقضية وبمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن نجاحه الأكبر يظل في مساهمته في جعل الفلسطيني على الخريطة السياسية للشرق الأوسط. رفض ان تكون قضية فلسطين قضية لاجئين. سعى لتأكيد انهم شعب يؤمن بثقافة الحياة والعلم والأنفتاح. اليوم، اكثر من اي وقت، تفتقد فلسطين رجالا مثل quot;ابوسهيل...انها لا تزال في حاجة الى كثيرين من امثاله الذين انتموا الى جيل انقرض او يكاد.