هناك فائدة معينة للانتخابات، اي انتخابات. تكمن المشكلة في ان هذه الفائدة تختلف بين بلد وآخر، وبين منطقة اخرى. في البلدان المتحضرة ذات التقاليد الديموقراطية العريقة، تعبّر الانتخابات عن طموحات الشعب، خصوصا عن رغبته في التغيير متى شعر بالحاجة الى ذلك. يحصل عندئذ استبدال بحزب او تحالف آخر للحزب او التحالف الحاكم. الانتخابات، او هكذا يفترض، جزء من الحياة السياسية، بل في اساس الحياة السياسية في دول ذات مؤسسات راسخة مرتبطة بوجود الدولة المدنية كما الحال في دول الاتحاد الأوروبي او الولايات المتحدة وكندا واليابان والبرازيل على سبيل المثال وليس الحصر.
في منطقتنا العربية وحتى في بلدان اخرى قريبة منها، مثل ايران، هناك وظيفة مختلفة للانتخابات. لكل انتخابات في بلد ما وظيفة خاصة بها، اكان ذلك في السودان او لبنان او العراق او ايران نفسها. هذه الوظيفة ليست بالضرورة ذات طابع سلبي بمقدار ما انها تكشف واقعا يساعد في فهم طبيعة المرحلة التي يمر بها هذا البلد او ذاك.
اذا نظرنا بتمعن الى الانتخابات التي جرت في السودان قبل ايام والتي تأجل الأعلان عن نتائجها لأسباب واهية، نجد بكل بساطة ان هذه الانتخابات لم تكن مهمة الاّ من زاوية انها خطوة على طريق انفصال الجنوب من جهة واحكام الرئيس عمر حسن البشير قبضته على الشمال من جهة اخرى. كان الرئيس السوداني وحزبه، الذي يمثل في الواقع المؤسسات الأمنية والعسكرية، في حاجة الى الانتخابات كي يعدّ نفسه للمرحلة الجديدة التي يبدو البلد مقبلا عليها. انها مرحلة انفصال الجنوب نتيجة الاستفتاء المقرر في التاسع من كانون الثاني- يناير المقبل. منذ فترة لا بأس بها، اعلن الرئيس السوداني انه سيكون اول من يعترف بنتيجة الاستفتاء الذي سيؤدي، على الأرجح، الى قيام دولة مستقلة في الجنوب. ولكن هل حسابات البشير في محلها وهل يكفي انفصال الجنوب كي تستقر الأوضاع في السودان؟ في كل الأحوال، احسن الرئيس السوداني المناورة، اقلّه الى الآن، ووظف الانتخابات في خدمة مشروع سياسي معيّن يصب في مصلحته الشخصية ومصلحة النظام الذي اقامه. علينا ان لا ننسى ان البشير في السلطة منذ العام 1989 وانه رفض ان يكون غطاء لأحد. لدى نظامه حاليا اجهزة ومؤسسات تابعة له بدل ان تكون جزءا لا يتجزّأ من الدولة السودانية. الانتخابات في السودان وسيلة للمحافظة على النظام المرتبط بشخص معيّن وحمايته ليس الاّ. في الدول المتقدمة ديموقراطيا، تتمثل وظيفة الانتخابات في توفير التبادل السلمي للسلطة. في بلد مثل السودان تقتصر الانتخابات على حماية النظام. لو لم يؤمن البشير لنفسه ولحزبه الظروف التي تضمن لهما الفوز في الانتخابات، هل كانت هناك في الأصل انتخابات؟
في لبنان والعراق، تبدو للانتخابات وظيفة مختلفة. تتمثل هذه الوظيفة في تأكيد ان البلدين تحت الوصاية. الوصاية الأيرانية بالنسبة الى العراق والوصاية الأيرانية- السورية بالنسبة الى لبنان. لجأ اللبنانيون والعراقيون الى الانتخابات للتعبير عن مقاومتهم للوصاية الخارجية ورفضهم ثقافة الموت والميليشيات المذهبية التابعة للخارج، لأيران تحديدا. كانت نتائج الانتخابات في لبنان يوم التاسع من حزيران- يونيو 2009 فعل مقاومة ودفاعا عن ثقافة الحياة والعيش المشترك. ولكن تبين ان الأكثرية الحقيقية التي كرست وجودها نتائج الانتخابات ليست قادرة على تشكيل حكومة تعكس بالفعل طموحات اللبنانيين. كل ما هو مطلوب ان تكون quot;حكومة الوحدة الوطنيةquot; خطوة على طريق تغطية عودة الوصاية السورية الى لبنان ولكن بفضل ميليشيا مذهبية مسلحة تابعة لحزب مذهبي لا يخفي ان مرجعيته في مكان ما في طهران وليست في اي مكان آخر. استخدم اللبنانيون الانتخابات لأبلاغ كل من يهمه الأمر انهم يرفضون عودة الوصاية. واستخدمت الوصاية الانتخابات لتقول انها لم تتعلم شيئا من دروس الماضي القريب وان اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه والأحداث التي تلت تلك الفاجعة ليست سوى حدث عابر وانه لم يتغيّر شيء في لبنان. ولكن من كان يصدّق ان القوات السورية ستنسحب يوما من الأراضي اللبنانية؟ من كان يصدق ان عودة النفوذ السوري الى لبنان، جزئيا، ستكون بفضل الجسر الأيراني الذي اسمه quot;حزب اللهquot; وسلاحه؟
ما ينطبق على لبنان ينطبق على العراق مع فارق انه كان ممكنا تشكيل حكومة لبنانية بعد مخاض طويل تلى الانتخابات. في العراق، لا حكومة في الأفق على الرغم من مرور نحو سبعة اسابيع على الانتخابات. كان مطلوبا ان يفهم اللبنانيون انه لن تكون هناك حكومة برئاسة زعيم الأكثرية النائب سعد الحريري من دون موافقة سورية وايرانية. جاءت الحكومة نتيجة تقارب سوري- سعودي وبعد تدخل قطري مباشر لدى طهران التي زارها امير الدولة الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. بكلام اوضح، اراد النظامان السوري والإيراني القول انهما غير مهتمين بنتائج الانتخابات اللبنانية وان القرار الحاسم عائد الى السلاح الموجه الى صدور اللبنانيين. السلاح يقرر شكل الحكومة اللبنانية وليس الانتخابات... الحكومة اللبنانية تُشكل خارج لبنان والاّ يبقى الوطن الصغير من دون حكومة بغض النظر عن وجود اكثرية افرزتها الانتخابات او عدم وجود مثل هذه الأكثرية الحقيقية.
يبدو واضحا ان ايران لا تريد شريكا ولا تقبل بشريك في العراق. تريد حتى تغيير نتائج الانتخابات عن طريق اعادة فرز صناديق في بغداد كي لا يكون اثر للمقاومة التي اظهرها المجتمع العراقي في مناسبة الانتخابات. وجه العراقيون رسالة الى الأحزاب المذهبية المتطرفة اكانت شيعية او سنية فحواها انهم يبحثون عن وطن اوّلا ولذلك صوتوا، حيث استطاعوا ممارسة حقهم الانتخابي بحرية، للائحة الدكتور اياد علاوي التي اسمها quot;العراقيةquot;. المسألة مسألة وقت فقط. عاجلا ام آجلا، بعد شهر او شهرين او عشرة اشهر او ربما اكثر، ستكون هناك حكومة عراقية صنعت في طهران برئاسة شخصية ضعيفة... الاّ اذا حصل شيء ما داخل ايران نفسها يغيّر في المعطيات الأقليمية.
من قال ان لا وظيفة محددة للانتخابات في العراق، ما دامت الانتخابات تشكل امتدادا لواقع تمثل بأن ايران كانت الطرف الوحيد الذي خرج منتصرا من الحرب الأميركية على العراق؟
لا يعود مستغربا ان تستخدم ايران الانتخابات في العراق ولبنان لتكريس نفوذها في البلدين العربيين متى علمنا ان الانتخابات في quot;الجمهورية الإسلامية quot; نفسها ليست سوى وسيلة لبلوغ اهداف سياسية معينة. انها وسيلة لتأكيد ان انقلابا حصل داخل ايران نفسها. بدأ الإنقلاب بانتخاب محمود احمدي نجاد رئيسا في العام 2005. كان التجديد له في انتخابات الثاني عشر من حزيران- يونيو الماضي بمثابة استكمال للعملية الإنقلابية التي قادتها مجموعة من quot;الحرس الثوريquot;... انه انقلاب بكل معنى الكلمة يقوم على فكرة ان للانتخابات وظيفة اكان ذلك في السودان او لبنان او العراق... او ايران. يا لها من وظيفة تفرغ اي مفهوم للانتخابات من مضمونه!