هناك بين اللبنانين والعرب من لا يزال يعيش في الاوهام ويطرح اسئلة من نوع هل علينا دعم لبنان ومساعدته بكل الوسائل المتاحة او ما الذي اتى بالرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الى الوطن الصغير في هذه الظروف بالذات؟ يفترض بالذين يعرفون، ولو القليل، عن لبنان والمنطقة الاقتناع مرة اولى واخيرة ان ما يحدث في لبنان انقلاب بكل معنى الكلمة وعلى كل المستويات، انقلاب على لبنان وعلى كلّ ما هو عربي في المنطقة. لا يمكن فصل زيارة الرئيس الايراني بكل ما رافقها من تظاهرات ترمز الى قيام وضع جديد في لبنان عن الانقلاب الذي ينفّذ على دفعات. انه انقلاب على لبنان الذي عرفناه من منطلق ان التوازنات الاقليمية تغيّرت جذريا وان لا بدّ من ان تكون لها انعكاساتها على الشرق الاوسط وعلى الوطن الصغير ومستقبله وطبيعة نظامه وحتى طبيعة التوازنات الداخلية فيه.
بلغ هذا الانقلاب، الذي يستهدف تحويل اتفاق الطائف من اتفاق كانت تنفذه سوريا على هواها حتى العام 2005، الى اتفاق تتحكم به ايران، ذروته باغتيال رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط- فبراير 2005. بغض النظر عما اذا كانت للنظام السوري علاقة بالجريمة، التي مهدّ لها تمديد ولاية الرئيس اميل لحود ثم محاولة اغتيال الوزير مرون حماده، ام لا، يبقى اهمّ ما في الموضوع ان النظام في ايران باشر عمليا في مرحلة معينة وضع يده على لبنان. يفعل ذلك من منطلق ان ما حصل في العراق نتيجة الاجتياح الاميركي الذي توج بسقوط بغداد في التاسع من نيسان- ابريل 2003، غيّر التوازنات الاقليمية. بات العراق، بقسم منه، جزءا لا يتجزأ من دائرة النفوذ الايرانية الآخذة في الاتساع اقليميا. لماذا يبقى لبنان بعيدا عن النفوذ الايراني المباشر؟ لماذا لا يصبح امتدادا، معترفا به دوليا واقليميا، للمحور الايراني- السوري مع ارجحية واضحة لطهران التي اثبتت انها قادرة، الى حدّ كبير، على التحكم بمصير الوطن الصغير. اظهرت ايران ذلك بالملموس، عندما ملأت الفراغ الامني الذي خلفه الانسحاب العسكري السوري من لبنان. فعلت ذلك بواسطة عناصر الميليشيا المسلحة التي سمّيت quot;حزب اللهquot; والتي تعتبر لواء في quot;الحرس الثوريquot;. ما لبث الحزب ان دخل الحكومة اللبنانية عن طريق وزراء لـه بعدما كان يكتفي بان يكون لديه عدد محدود من الاعضاء في مجلس النواب يتابعون العمل الحكومي.
حدث كل ذلك بعد اغتيال رفيق الحريري واضطرار القوات السورية الى الخروج من لبنان تحت ضغط الاكثرية الساحقة من اللبنانيين، خصوصا اهل السنَة الذين اعتبروا ان اغتيال رفيق الحريري كان اعتداء مباشرا عليهم وعلى كل بيت من بيوتهم من اقصى الجنوب، الى اقصى الشمال.
لم يتوقف الانقلاب الذي تنفذه ايران، انطلاقا مما حققته في العراق، عند هذا الحدّ. فقد اثبتت ايران مرة تلو الاخرى انها صاحبة الكلمة الاولى والاخيرة في لبنان وانها تمتلك قرار الحرب والسلم فيه. اكدت انها تسيطر فعليا على لبنان بعد حرب صيف العام 2006. فعلت ذلك بعد الاعتصام الطويل في وسط بيروت الذي كان استكمالا لتلك الحرب الاسرائيلية. وفعلت ذلك بعد اغلاق مجلس النواب بواسطة رئيسه لمنع انتخاب رئيس للجمهورية يتمتع بحد ادنى من الذكاء والوطنية والفهم في السياسة العربية والدولية. وبعد غزوة بيروت والجبل في ايار- مايو من العام 2008 التي اسفرت عن اخضاع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وتدجينه الى ابعد حدود. وبعد تأمين انتخاب رئيس للجمهورية يقبل بان يكون شاهد زور على ما يتعرض له البلد من دون ان ينبس ببنت شفة. وبعد رفض القبول بنتائج صناديق الاقتراع في حزيران- يونيو 2009 ومنع سعد الحريري من تشكيل حكومة متماسكة لا ثلث معطلا فيها قادرة على تنفيذ المشاريع التي تضمن حدا ادنى من الرخاء والعيش الكريم للبنانيين، اقله من ناحية تحسين وضع المياه والكهرباء والبنية التحتية. وبعد الاعلان عن ان السلاح المذهبي هو الحكم بين اللبنانيين وان كل ما عدا ذلك هرطقة وان القوة الدولية في جنوب لبنان ليست في منأى عن التجاذبات الاقليمية والدولية وانها رهينة quot;الاهاليquot;، اي عناصر quot;حزب اللهquot;.
بعد ذلك كله وبعد احداث اخرى بينها الاعتداء على الجيش اللبناني من اجل تعطيل دوره، جاءت زيارة محمود احمدي نجاد لتكرس واقعا جديدا يتمثل في ان لبنان كله رهينة وان لا خيار امامه سوى التخلي عن المحكمة الدولية ودخول حقبة الطائف الايراني... بعد الطائف السوري الذي ساهم في صنعه اشخاص على شاكلة النائب الحالي ميشال عون الذي لا يستطيع ان يكون شيئا آخر غير اداة تستخدم في عملية تدمير مؤسسات الدولة اللبنانية. الدليل على ذلك دوره في تدمير الطائف الاصلي ذي الغطاء العربي والدولي عندما منع الرئيس رينيه معوض من الوصول الى قصر بعبدا مسهّلا عملية اغتياله...
ما المطروح حاليا؟ مطروح بكل بساطة تغيير الصيغة اللبنانية والانتقال من المناصفة بين المسلمين والمسيحيين الى المثالثة بين المسيحيين والسنة والشيعة مع حق الفيتو تمارسه عبر ممثليها في الحكومة. مطلوب ان يرضخ لبنان ومعه العرب للاملاءات الايرانية لا اكثر. اوليست ايران هي التي تتحكم بالعراق وبتشكيل حكومة عراقية؟ هل لبنان احسن من العراق؟ ما الذي يمنع ان تكون هناك حكومة عراقية برئاسة الدكتور اياد علاّوي الذي حصلت كتلته على اكبر عدد من النواب في الانتخابات التي جرت في السابع من آذار- مارس الماضي؟ ما الذي يقف حائلا دون تنفيذ ما نص عليه الدستور العراقي الذي يدعو صراحة وبكل وضوح من يكون على راس الكتلة النيابية الاكبر الى تشكيل الحكومة؟
يدفع لبنان ثمن انهيار العراق والخلل الاقليمي نتيجة الاجتياح الاميركي لبلد كان يشكل احدى ركائز النظام الاقليمي. هناك عملية اعادة رسم لحدود الدول في المنطقة واعادة نظر في التوازنات السياسية على صعيد الشرق الاوسط كله. تعتقد ايران انها الرابح الاول جراء كل ما حصل وان عليها الحاق لبنان بها، تماما كما حصل بالنسبة الى قسم من العراق. لم يعد هناك نفوذ عربي يذكر في العراق. اقصى ما تستطيع سوريا الحصول عليه، في ظل موازين القوى القائمة حاليا، يمكن ان يكون جائزة ترضية تتمثل في زيارة لدمشق يقوم بها السيد نوري المالكي الذي تعده طهران للعودة الى موقع رئيس الوزراء بموجب دفتر شروط فرضته عليه.
لعلّ اغرب ما في الامر ان لا استيعاب عربيا لاهمية ما يدور في لبنان ولضرورة منع الطائف الايراني. يدعو بعض الجهلة الى التخلي عن لبنان وتركه لايران بحجة ان اللبنانيين تنكروا للمساعدات العربية التي حصلوا عليها. يتجاهل هؤلاء ان هذه المساعدات العربية لا تقارن بما وظفته ايران في لبنان وان السؤال المطروح حاليا: من بعد لبنان والعراق؟ هل المشهد الذي نراه في البحرين او اليمن او في هذا البلد العربي او ذاك بعيد عن فصول المسلسل الذي بدأ بالعراق ولبنان؟ لا شيء بعيدا عن لبنان وعما يدور في لبنان. اليوم قبل غد مطلوب ان يفعل العرب شيئا لمنع وضع اليد الايرانية على لبنان عن طريق انقلاب لم يعد ينتظر سوى من يضع فصله الاخير...تحت عنوان اعادة النظر في اتفاق الطائف كي يكون هناك اتفاق جديد، لا علاقة له بالاتفاق الاصلي الذي كان عربيا- دوليا، اتفاق جديد مختلف لا يبصر النور الا بموافقة من طهران وبمشاركتها المباشرة في صياغته!