لا تكاد تجد بلدا من بلداننا العربية؛ إلا القليل، فيه مجموعة كبيرة من الناس يكرهون وطنهم. ينتظرون اللحظة/ الفرصة لمغادرته بالمرة، والعيش في بلدان تحفظ لهم حقوقهم وكرامتهم؛ حيث بإستطاعتهم تجرع مرارة الغربة، وكذا صعوبة الطقس، وتقبل العادات المختلفة، المهم هو أن يحققوا الغاية من وجودهم في هذه الحياة، ومنها أن يعيش المواطنة الحقة؛ التي تحقق له مصالحه ورغباته، لم يعد-كما كان في وقت من الأوقات- مغادرة الأوطان الأصلية والهجرة الى البلدان النائية؛ بدافع الخوف من الاعتقال والسجن، وإنما للبحث عن حياة كريمة، افتقدها المواطن في وطنه؛ لأن الحياة راهنا، أضحت أعلى وأغلى وأولى.
في وقت قريب كان الشاب العربي يذهب للدراسة بالخارج، ويحن للعودة لبلده ليخدمها ويحكي لأبناء حارته ماتعلمه ودرسه. أما اليوم فأصبح يتعلم لغة القوم في وطنه، رغبة في الخدمة والعمل عندهم؛ أي في تلك البلدان.
من العسير إقناع هؤلاء بالنصوص الدينية؛ ليمكث في بلده، فمثلا تقول له إن حب الوطن / الأوطان من الإيمان؛ فيرد عليك بدلائل قاطعة من الواقع المعيش، تجعلك تكره الوطن ومن فيه، فأينما حللت ورحلت في ربوع الوطن الواحد تجد: التهميش والفقر والحرمان، والبطالة، واستفحال الرشوة، والسكن غير اللائق، عدم الشعور بالأمن والأمان، عدم الرعاية الصحية، انعدام الخدمات الاساسية، الغش في كل شيء، انتشار الأغدية الفاسدة، تلوث البيئة، كذب الساسة ونفاقهم، المحسوبية والزبونيةhellip;
بعض البلدان العربية تجد عندها إمكانات وقدرات هائلة؛ من ثروات طبيعية وموارد بشرية كفأة ومؤهلة، لكن غالبية مواطنيها يعيشون الفقر والقهر، ومظاهر الفوضى في كل مرافقها الحيوية، بينما في بلدان غربية ذات مساحة صغيرة، وإمكانيات محدودة، تستطيع تدبيرمواردها على محدوديتها خدمة لمواطينيها؛ فتوفر لهم الملبس والمأكل والمشرب والمسكن والعلاج..
حين يقارن المواطن الأوضاع هنا وحالها هناك، حيث في الأولى المواطن لا محل له من الإعراب. المواطن ساخط على الدولة ومؤسساتها لا يشارك في عملية الإنجاز والتنمية. وفي الثانية المواطن له اعتبار ومكانة محترمة، كذات إنسانية، تجده متحمس وعلى استعداد تام للتضحية خدمة لمصالح وصالح ذلك الوطن.
لقد بلغ اليأس مبلغه لدى المواطن الذي كان يحب ولا يزال وطنه من الأعماق، لكن حكومات هذه البلدان نزعت عنه كرها هذا الحب، وجعلته يحوله الى وجهة أخرى؛ حيث جسده البعض في العنف وردود فعل سلبية، والآخر فضل المغادرة والهجرة الى أرض الله الواسعة، فهذه الحكومات لم تول الاهتمام بالانسان ولا بالتنمية، ولكنها اهتمت بتأمين مستقبل أبناء حكامها، والبحث عن الثراء السريع، على حساب حقوق الفقراء والبسطاء ومصادرة حقهم في ثروة بلدهم. لا هم لهم الا الحفاظ/ البقاء في الحكم والسلطة؛ فالسياسي لديهم ممتزج بالشخصي والمصلحي، غايتهم البقاء في كراسيهم مهما كلفهم الأمر ومهما كانت الوسيلة بالقوة والعنف والرشوة والفساد والارتجال..
أحيانا يتملك المواطن البسيط بصيص من الأمل، حينما يقال أحد المسؤولين الفاسدين من منصبه، وقد يسجن، فيظن الناس أنها بداية إعادة الامور الى نصابها؛ أي تحسن الوضع. لكن سرعان ما نلحظ ظهور ساسة آخرون يقتفون أثر السابقين في النهب والسلب، ولا أحد يضرب على أيديهم، ولا يسألون؛ من أين لكم هذا؟ وأغلبهم يفلت من العقاب، والذي حوكم فيهم، يعاقب بعقوبة محتشمة، تكون أقل من حجم ما اقترفوه في حق الشعب.
أصبح الفساد سمة غالبة ومألوفة في بلداننا العربية؛ وللأسف تساهم المؤسسات التربوية في إعادة إنتاجه على شاكلة تلك النخب الفاسدة التي خربت البلاد والعباد، بل أحيانا أكثرمن سابقاتها سوء.
ومن الأمورالتي يحار المرء في فهمها ولايجد تبريرا معقولا لها، تتمثل في ما يقع في بلداننا من احتجاجات تلو الأخرى، يضحي فيها بعض المواطنين بحياتهم، من أجل لفت الانتباه لمطالبهم الطبيعية والمشروعة. والمسؤولون لا يحركون ساكنا، حتى ولو تسببوا في أزمة/أو إفلاس قطاع من القطاعات التي يشرفون عليها؛ نتيجة خطأ مهني ارتكبوه أو خطأ إداري، أونتيجة قرارات مرتجلة غير مدروسة. ومع ذلك فإنهم لا يعترفون أمام المواطنين بخطأ سياستهم، بله الاستقالة من مناصبهم، كما يجري في الدول الديمقراطبة؛ هؤلاء لا يفهمون المواطنة الفهم الصحيح، كمطالب ورغبات ومصالح يعبر عنها المواطن في وسائل الاعلام وغيرها، والسلطة السياسية تستجيب وتتفاعل مع حاجياته، لكن- مع شديد الأسف- لا يزال في مجتمعاتنا التعامل مع الأفراد كرعايا لا كمواطنين؛ لأن الرعايا لا يطالبون بحقوقهم وغير مسموح لهم التعبيرعن أنفسهم، ولا يرفضون قرارات الحاكمين الجائرة في حقهم ولا يمانعونها.
المواطنة ببساطة تعامل يومي، وليست حديث تلوكه ألسنة الساسة في خطبهم. المواطنة هي قضاء مصالح الناس، والتخفيف عنهم أعباء التنقل من إدارة الى إدارة، ومن داخل الادارة من مكتب إلى مكتب، وتأمين الرعاية الصحية لهم، وعدم ترك المواطن فريسة/عرضة لمساومات الممرضين الجشعين، والأطباء المستهترين. ويكفي أن تزور أحد المستشفيات العمومية فتجد جمهرة من المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة، كل واحد يحمل معه مأساته مع الموظفين وسوء معاملتهم له. ناهيك عن الفوضى التي تعيشها مدننا من اكنظاظ وزحام مروري خانق، وأزقة وشوارع ملأى بالنفايات، وحيوانات سائبة، وحدائق عمومية باتت قبلة للمشردين وملاذا للمنحرفين...
ألهذه الدرجة يصل حال أمة مرجعيتها الثقافية والدينية، تعج بالتوجيهات والتعاليم التي تدعو الأفراد الى حسن الأخلاق والمعاملة، والنظافة والرعاية وخدمة الآخرين بتفان، والاحترام...؟
لكن بعض المسلمين منشغلين بشكليات وقشور لا تمثل روح الدين، ولا طائل من ورائها طبقت أم لم تطبق، الأمر سيان. وفي هذا الصدد نستحضر بيتا شعريا قيما للمتنبي، يعبرعن واقع حال الأمة:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
المواطنة الحقة هي الرد الحقيقي على الإرهاب والتشدد والفوضى والعنف...، والمواطنة شأنها شأن كثير من القضايا التي وفدت إلى البلاد الإسلامية؛ هي نتيجة إفرازات الدولة الحديثة، وهي تتعلق تحديدا بالحقوق المدنية ليس إلا. بإعتبارها كعقد ينظم علاقة الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقة هؤلاء بالدولة. لذلك فالشق المدني مرتبط بهموم المواطن اليومية وحاجياته الضرورية، كإنسان من حقه أن يحيا حياة كريمة؛ بحكم إنسانيته. ومن ثم فلا دخل للدين في موضوعة المواطنة؛ لأن الانسان/ المواطن في ظل دولة ديمقراطية، تكفل لجميع مواطنيها حرية الاعتقاد وممارسة شعائرهم الدينية. المواطنة لا تتعلق بالحقوق الدينية كما يعتقد البعض، ولا تنحصر مثلا في تحية العلم والنشيد الوطني...فهذه إحدى تجلياتها. وبنظرنا يجب اعتبار حفظ المواطنة الحقة من الضروريات في الدين الاسلامي الى جانب الضروريات الخمس المعروفة.
المواطنة بسيطة للغاية لو أرادت السلطة السياسية أن تفعل هذا لقامت بذلك بلا عناء. ربما قدر المنطقة العربية التي يشكو مواطينيها الحرمان والحيف أن تبقى عجلة التغيير فيها معطلة الى أجل غير مسمى، ولذلك تجد البعض من شدة فرطه في اليأس من التغيير، ينتظر/ ويتمنى منقدا من السماء. ولكن الإنقاد الحقيقي يكون من الأرض من لدن حكماء وعقلاء، تدعمهم quot;جماهيرquot; واعية ومتعلمة.
سئل أحد المواطنين في الغرب؛ ما الذي يجعلك ترضى عن الدولة؟
فأجاب: *عامل النظافة الذي يستيقظ قبلي.
*ورجل الإدارة الذي يقضي مصالحي.
*ورجل الشرطة الذي لا أشعر به إلا إذا احتجته.
من هنا، ندرك خطورة غياب المواطنة الحقة في أوطاننا التي اختطفتها طغمة من الحكام،
لا تعير أدنى اهتمام بشعوبها، ولا تحفظ كرامتهم.
فلماذا لا نجد المواطن الفنلندي أو السويسري...لا يفجر نفسه وسط الأبرياء، ولا يحرق جسده احتجاجا على حقه في الحصول على الشغل، ولا يدمر مؤسسات بلاده...
لاشك أن هذا المواطن يعيش في ظل دولة الإنسان، الدولة التي تحترم الإنسان كيفما كان، ومهما دان.