سال مداد كثير حول الحديث عن الوسطية، وترسخ الاعتقاد لدى الكثير بكون الإسلام دين الوسط، ورفعتها مؤسسات ومنظمات وحركات شعارا لها، وجعلتها من مبادئها ومرتكزاتها في السلوك والعمل والاعتقاد، وعرف المصطلح حضورا مكثفا في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، كما اتخذ مفهوم الوسطية أبعادا مختلفة ومتعددة، لاسيما مع ولوج الحركات الإسلامية الحقل السياسي في عدة بلدان، وزاد الطين بلة الحملة العالمية على الإرهاب والربط التعسفي بالإسلام، فأضحى الكل يتحدث عن سماحة الإسلام ووسطيته واعتداله... وفي خضم هذا الجو، الدفاع عن الإسلام ورد التهم الموجهة للمسلمين، انبرت أقلام لتناول المصطلح في مضانه الأصلية، وتتبع دلالاته واستعمالاته في مجالات فلسفية وسياسية وفكرية، وكان من أبرزها كتابات انطلق أصحابها من النص القرآني الذي وردت فيه كلمة وسط وتحديدا عبارة quot;الأمة الوسطquot;.
محاولة للفهم والاستيعاب، وإزالة الالتباس، وجلاء الصورة؛ حول حقيقة وسطية الإسلام، نطرح الأسئلة التالية: هل تعتبر الوسطية تصورا أو منهجا للتغيير أم شروعا حضاريا، أم طريقة في التفكير؟ وهل ثمة علاقة بين quot;الأمة الوسطquot; والوسطية بشقيها الفكري والسياسي؟ وما هي التداعيات السلبية الناجمة عن الطرح الوسطي للإسلام؟ وهل مفهوم الوسطية كما هو متداول وشائع لدى النخب والأفراد يتطابق وما قصده الوحي؟
وما هي معايير نعث مجموعة ما أو فريق معين بكونه يتبنى وسطية الإسلام؟ وهل هذه الوسطية أو الوسط كمي أو كيفي؟ وهل يمكن أن نتحدث عن تعدد الوسطيات الإسلامية بين مختلف البلدان...؟ وهل صحيح ما قيل أن الوسطية حلت مشاكل وإشكالات الأفراد والمجتمعات؟
تتعدد الأسئلة وتتشابك بقدر حجم الغموض والالتباس الذي يكتنف المفهوم.
فسر الطبري ومعه كوكبة من المفسرين، قوله تعالى: quot;جعلناكم أمة وسطاquot; أي: جعلناكم أمة عدولا.
من خلال تتبع الكتابات التي تناولت مفهوم الوسطية، نجدها تركز على المعنى اللغوي وما أورده المفسرون حولها، والخلاف الذي أثير كان حول المقصود بالأمة الوسط كما جاء في سورة البقرة الآية 143، والملاحظ من خلال الحديث عن الوسطية في الإسلام، نجد بعض رموز الاتجاه السلفي يحاول التأصيل للمصطلح من خلال الأحاديث النبوية الشريفة التي تحدثت عن بعض المعاني القريبة من الوسطية، ويذهب- هذا الاتجاه- إلى أن تحديد الوسط يقتضي العلم بالقواعد الشرعية والالتزام بالكتاب والسنة في ذلك، ونجد الاتجاه الإخواني والذي تمثله مدرسة حسن البنا، حاول تغذية المفهوم ليشمل مجالات عدة في الاعتقاد والشريعة والاصطفاء. الوسطية في منظور كلا الاتجاهين الوسطية هي حالة هندسية؛ أي وسط حسابي؛ فالوسط الإسلامي هو المنتصف، فهي تفيد العدل والحكمة، والاعتدال والتوازن، ويقال الوسطية بين الإفراط والتفريط بين التقصير والغلو، فهي الحق بين باطلين والعدل بين ظلمين، وكذا يقال أنها تعني القصد والخياروالحسب والرفعة والاستقامة على النهج السوي والمكان...
نظرا لما أفرزه المصطلح من سيولة دلالية؛ تصدى له الكثير من الكتاب والباحثين نقدا وتصحيحا، لعل من أبرزهذه الآراء ما ذكره الكاتب السعودي تركي الحمد في مقالة بالشرق الاوسط (السنة2004 العدد 9288 ) حيث بدأ بطرح مجموعة من الأسئلة حول المصطلح من قبيل من يحدد الوسط؟ وبأي معيار يكون التحديد؟ هل أن هذا الوسط كمي أو كيفي؟ وما هو الفيصل بينهما؟ لأن هذا سيفضي إلى تعارض الوسطيات أو ما يمكن تسميته بصراع الوسطيات، وقد خلص في نهاية مقالته بكون مفهوم الوسطية غامض ومبهم، وبالتالي لن تكون حلا لمشكلات هذا الزمان.
وكذلك أبويعرب المرزوقي الذي اعتبر الوسطية القرآنية -بنظره- كما تحددها الآيات الخمس- يشير الى الآيات التي وردت بها كلمة وسط باشتقاقاتها- ليست قيمة مكلفا بها بل هي حال وجودية حاصلة ترتب عليها تلكيف المسلمين بالشهادة. وهي بمعنى آخر جعل إلهي في موقع لا اختيار بين نقيضين.
هكذا، يتبين أن الأستاذ -أبو يعرب- كما هو الشأن بالنسبة للكثير من الباحثين يرفض المفهوم التبسيطي الارسطي الشائع في أوساط الاعلام الديني؛ ولدى كافة أطياف الاسلام السياسي، فالمرزوقي أبو يعرب يرفض اعتبارها قيمة مكلفا بها، أو طريقا ثالثا بين جملة الثنائيات، أو مشروعا إيديولوجيا، أو توصيفا للمنهج الذي كلف الله به الامة، فهي- بنظره- محض صفة وجودية تضع الامة في وسط حال الامم من حولها. لقد قيل عن مفهوم الوسطية بكونه مفهوما مطاطا فضفاضا كل واحد يستطيع أن يلبسه المعنى الذي يريد دون النظر الى السياق القرآني، ومن ثم اعتبرت مسألة نسبية ndash;بنظر الباحث معتز الخطيب(جريدة الحياة عدد. 03/03/2007 ) بقوله:
quot; إن الوسطية laquo;مسألة نسبية؛ فالسلوك الوسطي في بلد مثل المغرب لا بد أن يختلف عنه في بلد تحت الاحتلال مثل فلسطين أو العراق (...) وهكذا توزعت الوسطية بين الإخوانية، والسلفية المذهبية(...) في حين أن السياق القرآني يقع خارج منطق الثنائيات تلك، ويقدم الرسالة المحمدية (الإسلام) على أنها رسالة معيارية - وليست توسطية - يقاس إليها كل انحراف وقع في الديانات السابقة، وهي رسالة مهيمنة على ما سبقها وليست جامعة بين ما سبقها.quot;
لا نبالغ إذا قلنا أنه لا يوجد في التراث العربي والاسلامي المكتوب شيىء يسمى quot;وسطيةquot; فهو مصطلح وليد سياق حديث؛ ألصقت به معاني عدة، الشائع والذائع منها؛ يستبطن المفهوم الارسطي الذي يعتبر الفضيلة وسط بين رذيلتين؛ وسكب هذا المعنى على منظومة الاسلام -فأضحى الجميع يتحدث عن الاسلام منهج وسط في كل شيء في التصور والاعتقاد والتعبد والتنسك والاخلاق والسلوك والتشريع؛ عنوانها البارز لا تفريط ولا إفراط- لقد ألحق هذا الفهم ضررا بالغا على الاسلام، لماذا ؟ لأن الاسلام يعتبر رسالة معيارية من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن أن نفهم الاسلام من نقيضيه.
كان من تداعيات هذا الالتباس المفهومي؛ اعتبار البعض أن المناداة بالوسطية ما هو إلا دعوة لاتباع الهوى والتساهل والترهل والاستسلام والتفريط في الدين، والبعض اعتبر ذلك ماهو إلا تخريجة للاسلام السياسي من المآزق التي يعيشها لاسيما بعد أحداث 11ستمبر، كما أضحى كل فصيل، خاصة المتحدثين بالدين يدعي أنه وسطي فكرا وسلوكا وممارسة حتى أصبح ndash;كما يقال- كل يدعي وصلا بوسطيته، والوسطية لا تقر له بذلك.
هذا الالتباس في الخطاب quot;الاسلاميquot; السياسي المعاصر جعل البعض يقوم بمراجعة تنطلق من الفهم السائد لنقده ونقضه، فضلا عن تفكيك نتائجه في الواقع والممارسة، لتصل إلى مفهوم مستمد ومستولد من النص القرآني. نافية مماثلة منظومة الاسلام بوسطية quot;أرسطوquot; كخطوة أولى، ثم كاشفة عن تهافت المعنى التلفيقي التوسطي البيني، لتكشف نتائج هذه الأبحاث في نهاية المطاف؛ كون الوسطية هي في جوهرها موقع وجعل إلهي وحالة وجودية وليست موقفا ولامشروعا ولا منهجا للتغيير.
وبنظرنا الوسطية لا معنى لها بدون اقترانها بالشهادة على الناس التي تقتضي الحضور، والحال أن الأمة الاسلامية اليوم حاضرة بلا حضور، وبالتالي لا يزال شرط الشهادة على الناس غير قائم.