مرت الحركة الإسلامية كظاهرة فكرية -اجتماعية- سياسية، منذ ظهورها بمراحل عدة تتراوح بين التقدم والتراجع، وبين الانتعاش والانكماش. وقد دشن ولوج بعض أطيافها إلى السياسية عهدا جديدا في تاريخها، حيث اعتبرت امتلاك السلطة والسيطرة على النظام السياسي فضلا عن أنه ضرورة شرعية وواقعية، فتحا كبيرا ومفتاحا للتغيير الاجتماعي، ومقدمة لنهضة حضارية إسلامية. ومثل هذا الرهان السياسي كمدخل للإصلاح والنهوض مرتكزا أساسيا للعقل السياسي الإسلامي المعاصر، نظرا لما يحمله العمل السياسي من بريق وإغراء وسبيل أيسر لتحقيق الدولة /الحلم، في حين خفتت أصوات المنادين بضرورة التركيز على التثقيف والتربية ونشر الوعي وتنشيط المؤسسات المدنية وتكوين الرأي العام في اتجاه الدفاع عن مصالح المجتمع.
لما اصبحت الحركة الإسلامية المعاصرة حركة اجتماعية تعلي شأن السلطة والدولة، ازدادت اهتماما من طرف مراكز البحث والدراسات، وتتبعا لحراكها الإجتماعي ونتاجها الفكري وسلوكها السياسي نقدا وتحليلا واستشرافا.
وقد تزامن مع مشاركتها السياسية خطاب إسلامي ينطوي على مفاهيم ومقولات وشعارات خاصة نتيجة احتكاك النخب الإسلامية والعربية بالغرب، وتأثرها بأهم النظريات والأطروحات في مجال الدولة والسلطة والنظريات السياسية، فضلا عن المثال الديمقراطي للحكم القائم في هذه البلدان، بالمقارنة مع نموذج الحكم الإستبدادي في الوطن العربي.
ويمكن القول أن تشكل خطاب الإسلام السياسي، ترجع بوادر ظهوره مع مطلع القرن التاسع عشر مع رواد النهضة الأوائل، الأفغاني، عبده، التونسي، الكواكبي (...) ثم تلتها بعد ذلك الأدبيات السياسية للإخوان المسلمين، لقد كان لرواد النهضة والإصلاح قصب السبق في تشخيص الأوضاع آنذاك، وإثارة القضايا الحساسة للنقاش التي كانت تصنف من المحرمات، كما اقترحوا حلولا وبدائل للخروج من الأزمة والتخلف كل حسب منهجه ومرجعيته ومقاربته، وتركوا تراثا فكريا وسياسيا غاية في الأهمية.
وقد ساهم الوضع الداخلي للبلدان العربية المتأزم في إعادة النظر في جملة من الأمور لعل أبرزها، نظام الحكم، والتعليم، والمرأة، والحريات... والنخب التي برزت على الساحة لم تسلم من تاثير الحداثة بدليل بحثها في أهمية العقل في المنظومة الإسلامية، وضرورة استمراره من أجل التحرر من ثقافة الخرافة والتقاليد المكبلة للإبداع، وتوظيف القدرات العقلية في شتى الميادين على غرار ما قام به الغرب، وفي الجانب السياسي كان لاندلاع الثورة السياسية وقع كبير واثر شديد على نتاج ومواقف رواد النهضة والأجيال الصاعدة إلى حد الإفتتان بنتائجها، رغم أن تلك التحولات الجذرية في الغرب كانت مسبوقة بثورة علمية وثقافية ومعرفية يرجع الفضل فيها لفلاسفة الأنوار، حيث بدأ العالم يشهد انتقال الناس من نظام تيوقراطي إلى نظام بشري ينتخب الرئيس، وقامت سلطة سياسية نقلت الإنسان من رعية إلى مواطن يتمتع بكافة الحقوق والحريات.
شكل خطاب النهضة ونتاجها أرضية خصبة للحركات الإسلامية السياسية المعاصرة، بالرغم أنها لم تقف عند المقولات النهضوية الأكثر حداثة بل نجد بعضها ارتد عن ذلك الخطاب المتقدم على حساب مقولات تعود إلى العصور السالفة، ربما قد تكون ردة فعل على شدة القمع والإستبداد التي شهدتها مرحلة ما بعد الإستعمار، وسيطرة المعسكر على معظم الأنظمة العربية.
لكن هذا لم يحد من امتدادها الأفقي وترسخ شعاراتها، لا سيما مع تتالي الإخفاقات والهزائم العسكرية أمام إسرائيل، والإيديولوجية القومية والإشتراكية، حيث زحفت نحو امتلاك مواقع هامة في المجتمع وتعاظم نشاطها الشعبي المختلف، فأضحت رقما يحسب له ألف حساب.
قد شهد القرن الحادي والعشرين جلاء واضحا في المواقف بين حركة الاسلام السياسي وخصومها السياسيين في شتى القضايا بدءا من شكل النظام مرورا بمسالة الحريات والديمقراطية العلمانية أو التنمية والإقتصاد إلى قضايا الأسرة، وطال تباين المواقف والآراء التيارات والتوجهات داخل الحركات الإسلامية السياسية ذاتها.
وشهدت اللحظة الراهنة كذلك بروز جملة من المراجعات في بنية عقلية هذه الحركات الإسلامية، بعضها تحول من تبني العنف إلى نبذه ومن المقاطعة السياسية إلى المشاركة وبدت صيحات المراجعات أو النقد الذاتي تتعالى من هنا وهناك حتى غدت من الأمور الطبيعية في صفوف هذه الكيانات بعد ما كانت من الطابوهات.
إذا انطلقنا من السؤال التالي: هل تحمل حركة الإسلام السياسي مشروعا واضحا، أم شعارات عامة، من قبيل الإسلام دين ودولة، دستور وحكم؟ وبماذا نفسر التحولات والتغيرات التي طرأت في بنية بعض تياراته وفصائله، حتى أن بعضها تخلى عن فكرة إقامة دولة إسلامية لصالح إقامة دولة ديمقراطية، وثمة البعض الآخر الذي أعطى مدلولا موسعا للدولة الإسلامية أدى إلى حدوث نوع من التطور على مستوى الممارسة والتنظير، وعلى مستوى المواقف والمواقع، أي الإنتقال من المعارضة للأنظمة القائمة إلى ممارسة السلطة، ومن خطاب القطيعة إلى خطاب التفكير المشترك في الحلول، ومن خطاب التكفير إلى خطاب التفكير في التعايش، والعمل على تعديل بعض المواقف والأحكام من قضايا اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، أو التخلي عن شعار من الشعارات التي باتت ملتصقة بفترة زمنية سابقة. إن آليات اشتغال العقل السياسي quot;الإسلاميquot; جديرة بالدراسة والتفكيك، لا سيما الشق المتعلق بالتعامل مع النصوص المقدسة وكيف يوظفها في صناعة القرار والموقف السياسيين.
مما لا شك فيه، فإن أطروحة الإسلام السياسي دشنت جملة من الانتقالات والتحولات والتغييرات، على مستوى بعض الرؤى والتصورات والقضايا والمواقف/ لكن لا يزال بعضا منها لا سيما على مستوى المنطلقات المعرفية التأسيسية تحتاج إلى جرأة واقتحام لإنجازها فعليا، وهي تمثل رهان مستقبلها السياسي.