من بين القضايا التي أثيرت في أطروحة محمد أحمد خلف الله، قوله أن في القرآن أساطير، وقد انبرى الدكتور عبد الكريم الخطيب في كتابه الفن القصصي في منطوقه ومفهومه للرد على هذا القول بما يلي:
هل في القرآن حقا أساطير؟ وهل يتلاقى ذلك مع الصفة اللازمة له وهو الصدق المطلق؟
يقول: quot;إن القرآن هو كلمات الله، وما كان لكلمات الله أن تحمل باطلا، أو تتلبس به، أو تقيمه إلى جوارها، بل أنها تلقى الباطل دائما بما يطمس وجهه، ويستأنف كلامه ردا على المقولة الآنفة الذكر، وكيف يقع في فهم أن يصف الله القرآن بما وصفه به، وأن يقسم به في مقام التشريف والتكريم، وهو يحمل في كيانه أساطير وأباطيل..؟ وهل الأساطير إلا باطل الأباطيل ووهم الأوهام، وخرافات المخرفين؟ فكيف يحمل القرآن هذا الباطل وذلك الضلال(...)quot; (الخطيب، عبد الكريم، القصص القرآني، ص 306-307.)
وفي معرض رده على القول بأن القرآن نفسه لم يحرص على أن ينفي عن نفسه وجود الأساطير فيه. (مقولة خلف الله.)
يعرض الدكتور عبد الكريم الخطيب الآيات التي استند عليها -صاحب الفن القصصي،- الواردة في سورة الأنعام رقم الآية 26 حيث عرض ما قبلها وما بعدها من آيات تتصل بموضوع المقولة التي يقولها الكفار في القرآن؛ بأنه أساطير الأولين، يقول: quot;وأنت ترى أن مقولتهم تلك في هذا الموقف لا يواجهون بها القصص القرآني، ولا ما يحدثهم به من أخبار وأحداث، وإنما هم يلقون هذه التهمة في وجه القرآن كله، بل في وجه ما يحمل إليهم من دعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وفي سورة الأنفال الآية 31 و 32 الآيات تتضمن وحدانية الله والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر، وليست الآيات التي كانت تتلى عليهم تضم القصص والأخبار وحدها في سورة النحل، وقد جاءت عقب هذه الآية آيات تتحدث عن قدرة الله...وليس في السورة كلها شيء من القصص، بل إن السورة كلها دعوة إلى التوحيد.
في سورة المؤمنون (الآيات 81 ndash; 82 ndash; 83) هذه الآيات يسبقها ويلحقها آيات تتحدث عن جلال الله وعظمته وقدرته... فقولهم quot;إن هذا إلا أساطير الأولينquot; ليس فيه إشارة إلى القصص القرآني من قريب أو بعيد، بل إن الإشارة هنا جارية على منطق الأقوام السابقة في تكذيبهم لدعوى رسلهم: quot;بل قالوا مثل ما قال الأولونquot; والذي قاله الأولون quot;قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثونquot; لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا أساطير الأولينquot;.
فالقول بأن هذا أساطير الأولين متجه إلى quot;البعثquot; الذي وعدوا به كما وعد آباؤهم من قبل quot;وهو عندهم أسطورة من أساطير، وخرافة من خرافاتهمquot; وفي هذا يقول الشاعر الجاهلي:
حياة ثم موت، ثم بعث***حديث خرافة يا أم عمرو!
ويقول آخر:
يحدثنا ابن كبشه أن سنحيا***وكيف حياة أصداء وهام
وفي سورة الفرقان (الآيات 4 ndash; 5 ndash; 6) وانطلاقا من سياق الآية، يلاحظ أن قولهم quot;أساطير الأولين اكتتبهاquot; ليس بالضرورة متجها إلى القصص القرآني، إنما إلى القرآن كله، وهو الفرقان الذي جاء ذكره في أول السورة. (ص 311-313، بتصرف.)
هل ينفي القرآن وجود الأساطير فيه؟ أم ينفي أنه ليس منزلا من الله؟
وقبل التعرض للإجابة عن السؤال المشار إليه أعلاه، يحسن بنا قبل ذلك أن ندرج ما طرحه محمد خلف الله، من أسئلة ممهدة قبل أن يلج إلى التحليل. يقول: quot;ونستطيع أن نسأل أنفسنا قائلين هل معنى ذلك الذي يقرره أن في القرآن شيئا دعاهم إلى هذا القول الذي يدل على التقرير القوي والاعتقاد المتمكن، وهل هذا الشيء من الأخطاء التي ملكت عليهم نفوسهم، أو هل شيء من حال القرآن جعلهم يقولون ذلك؟ لنلتمس الجواب عن هذا من دلالة تعرض القرآن للأساطير من نفيها عن نفسه وشدة حرصه على ذلك أو من دلالته على وقوفه منها موقف يخالفه ذلك؟
وبالنظر إلى الملاحظات التي أبداها الأستاذ خلف الله حول الآيات المتضمنة للأساطير، يذكر في ملاحظاته أن ما يفهم من النظر في هذه الآيات التي هي كل ما تحدث به القرآن عن الأساطير، أن القرآن نفسه لم يحرص على أن ينفي عن نفسه وجود أساطير فيه وإنما حرص على أن ينكر أن تكون هذه الأساطير هي الدليل على أنه من عند محمد عليه السلام وليس من عند الله.
واستدل على ذلك بما يلي:
أ- أن القرآن اكتفى بوصف هذه الصنيع من المشركين في آيات سورة الأنفال، المؤمنون، النمل، الأحقاف، دون تعقيب.
ب- أن القرآن اكتفى بتهديد القوم في آيات سور الأنعام والمطففين وهو تهديد يقوم على إنكارهم ليوم البعث، أو على صدهم الناس عن إتباع النبي، وليس منه التهديد على قولهم بأن الأساطير قد وردت في القرآن الكريم.
ج- مرة واحدة يعرض القرآن للرد عليهم في قولهم بأنه أساطير، وهي المرة التي ترد في سورة الفرقان، وهذه الآيات: quot;وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًاquot;. سورة الفرقان، الآيتان 5 ndash; 6.
فهل هذا الرد ينفي ورود الأساطير في القرآن؟ أو هو إنما ينفي أن تكون هذه الأساطير من عند محمد يكتتبها وتملى عليه ويثبت أنها من عند الله، quot; قل أنزله الذي يعلم السر...quot;
والأستاذ محمد خلف الله يرجح القول الثاني انطلاقا من قوله: quot;قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرضquot; ولم تكن الإجابة نفي ورود أساطير في القرآن.
ويستأنف كلامه بقوله قد كان إحساس القوم بورود الأساطير في القرآن قويا عنيفا وعقيدتهم في ذلك قوية ثابتة. وإذا كان القرآن لا ينفي ورود الأساطير فيه، إنما ينفي أن تكون هذه الأساطير هي الدليل على أنه من عند محمد عليه السلام وليس من عند الله.
يخلص إلى النتيجة التالية بقوله: quot;...فإنا لا نتحرج من القول بأن في القرآن أساطير لأن في ذلك لا نقول قولا يعارض نصا من نصوص القرآن.
تعقيب:
لا يسوى الله بين الأساطير والقرآن، مع أن هناك فرقا شاسعا بين الأساطير والآيات القرآنية، كما لم يتوقف محمد أحمد خلف الله عند مفهوم الأسطورة، وقاسها بما يفهمه الناس من أنها تلك الأحاديث والحكايات الخيالية والخرافية. ومع أن مفهوم الأسطورة يتخذ معاني أخرى، أما إقراره بوجود الأساطير، لم يتم تحديده من أي ناحية هل من ناحية شكلها أم محتوياتها؟
بعد عرض محمد أحمد خلف الله جميع الآيات في القرآن التي وردت فيها كلمة أساطير، أبدى ملاحظات حولها، من بينها: انطلاقا من النظر في هذه الآيات يفهم أن القائلين لهذا القول هم في الغالب الذين ينكرون البعث، ولا يومنون بالحياة الآخرة، وملاحظة أخرى، من خلال تلك الآيات يفهم أن المشركين كانوا يعتقدون بما يقولون اعتقادا صادقا، وأن الشبهة عندهم كانت قوية جازمة، وذلك هو الواضح تماما من هذه الآيات التي يحسن لنا أن نستعرضها سويا.
* في سورة الأنعام يذهب المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيستمعون القرآن لكنهم بعد الاستماع يجادلون ويقولون له quot;إن هذا إلا أساطير الأولينquot; ونعتقد أنهم يقولوا هذا القول في مواجهة النبي وأمام سمعه وبصره إلا وهم يعتقدون أن ما يقولونه وما يرونه الصواب، ومعنى ذلك أن الشبهة عندهم في احتواء القرآن على الأساطير شبهة قوية جارفة.( خلف الله، محمد أحمد، في الفن القصصي، 203 ndash; 204)
* وفي سورة الأنفال يذهبون ويستمعون وبعد هذا وذاك يقولون quot;قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَquot; سورة الفرقان، الآية 31. ولا يكتفون في هذا الموطن بهذا القول وإنما يذهبون إلى أبعد من هذا في التحدي ويقولون quot; وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍquot; سورة الفرقان، الآية 32.
* وفي الأحقاف يقف ولد هو فيما يروي المفسرون ابن أبي بكر الصديق من والديه هذا الموقف القاسي العنيف quot;وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَquot; الأحقاف، الآية 17.
لقد كان ndash;هذا الولد- قوي العقيدة شديد اليقين في أن ما وعد به من الإخراج إنما هو من الأساطير.
أ- لماذا انقطع القول بالأساطير حينما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؟
إن السبب فيما نعتقد واضح بين فالبيئة قد تثقفت ثقافة كتابية بفضل اليهود، وفي الكتب السابقة وردت الأساطير؛ لتشرح فكرة، أو تمثل وتجسم عقيدة من العقائد. وهذه فكرة يعرفها أهل الكتاب، ونعتقد أنه قد كان يعرفها المدنيون من العرب هؤلاء.
إن القصص الأسطوري يعتبر تجديدا في الحياة الأدبية المكية وتجديدا جاء به القرآن الكريم وتجديدا لم يألفه القوم ومن هنا أنكروه وهو بناء القصص الديني على بعض الأساطير.
ب- لماذا وقف عند هذه القولة من أقوال المشركين في القرآن؟
نقصد صاحب الرسالة محمد أحمد خلف الله، والقولة: quot;أساطير الأولينquot; (المرجع السابق، ص 316)
ويرد عليه الدكتور عبد الكريم الخطيب بقوله بأنهم لم يقولوا في القرآن قولا واحدا إنما قالوا أقوال عدة منها: أنه إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، وأن رسول الله شاعر، وبه جنون وكاهن، أضغاث أحلام.
والموضوع له تفرعات قد تكون لنا معها عودة، من قبيل العلاقة بين القصص القرآني و الاساطير و أوجه التلاقي والاختلاف.
لقد عرضنا هذا النموذج من المناقشة، بين علمين ومثقفين، استعملا وسائل حجاجية واستدلالية، نفتقدها في بعض الكتابات المعاصرة؛ حول بعض الموضوعات الدينية الشائكة والمحتملة لآراء عدة.