ثمة عوامل متشابكة ومتداخلة ساهمت في الثورات في العالم العربي؛ ما بين العوامل المباشرة وغير المباشرة، وما بين الذاتية والموضوعية، وما بين الداخلية والخارجية.
لا يزال قطار الثورات منطلقا ومستمرا في العالم العربي، وكل الأمل معقود على اكتمال مشهد التحولات في المنطقة الى وضع أفضل، يفضي للحاق بمصاف الدول الديمقراطية. في تونس ومصر-كما يعرف الجميع- بدأت الحركة الاحتجاجية السلمية بمطالب اجتماعية وحقوقية، وانتهت سياسية تطالب بتغيير بنية النظام السياسي برمته.
اللافت للانتباه أن قواسم مشتركة تجمع هذه الثورات، لعل أبرزها أن الاحتجاجات السلمية رفعت شعارات ولافتات ذات محتوى ينتمي الى النسق السياسي الحديث؛ المطالب بقيم إنسانية عالمية من قبيل الحرية، والمساواة، والعدالة، وحقوق الانسان...وتلك من مؤشرات حدوث تغييرات جذرية في ربوع الوطن العربي.
ماهي المسارات التي سيتخذها العالم العربي بعد هذه التحولات الجارية؟ وهل ستكون هذه الثورات في مصلحة هذه الشعوب، أم وبالا عليها؟
لقد شهدت المنطقة العربية قبل هذه الثورات حراكا سياسيا واجتماعيا، غير أنه ظل يراوح مكانه، ولم يلب إنتظارات هذه الشعوب وحاجياتها الضرورية، فأمام هذا الانسداد والركود والتذمر من سوء الاوضاع، تفجرت الاحتجاجات معلنة إسقاط هذه الأنظمة القائمة. فسارعت بعض هذه البلدان في خطوة استباقية للإعلان عن إصلاحات دستورية، وهي بلدان تحكمها quot;الملكياتquot;، ونستحضر في هذا الصدد قول ألكسيس توكوفيل عن الثورة الفرنسية: quot;أصعب لحظة على السلطة السيئة هي لحظة القيام بإصلاحاتquot;. أما الأنظمة الشمولية الديكتاتورية / الأمنية، فقد انهار بعضها بسرعة البرق، وبعضها الآخر لا يزال متشبثا بكرسي الحكم بآليات قمعية وعنفية قاسية؛ تقاوم - بلا جدوى- انهيارها الحتمي.
يرى البعض أن ما حدث ليس ثورة حقيقية؛ إنما مجرد غضب للشارع العربي سينطفئ بعد حين، واحتقان شعبي عابر نتيجة تذمر من الأوضاع المزرية. أكثر من ذلك شكك البعض في حقيقتها؛ بإرجاع ما حصل لفئات تريد الظفر بالسلطة تحت يافطة مساندة ثورة الشباب ومطالبهم. من هنا، شاع القول quot;بالثورة المضادةquot; بأن ما ضحى حوله المواطنون بأرواحهم، قد إلتف عليه البعض؛ أي أولئك الذين خرجوا من الباب عادوا أو سيعودون من النافذة. قد يكون من إيجابيات الخطاب التشكيكي هذا؛ إبقاء درجة تيقظ المواطن عالية، وأن يكون على أهبة استعداد للعودة للشارع؛ قصد تصحيح المسار، والضغط على صناع القرار.
لكن ثمة مؤشرات بارزة تبقي الوضع كما كان قبل سقوط هذه الأنظمة ورموزها، منها:


1

هذه الثورات لم تقدها نخب سياسية وثقافية؛ أو ما يعرف بالانتلجنسيا، الفئات المثقفة المرتبطة بالجماهير، أو بتعبير غرامشي المثقف العضوي؛ وبات الفاعل في هذه الثورات المعاصرة، هو ذلك الانسان البسيط الباحث عن لقمة العيش والكرامة والحرية، أو ما يعرف برجل الشارع هو الذي أصبح الآن بامكانه أن يغير المعادلة. فالساحة العربية عرفت فراغا مهولا في السنوات الاخيرة، فخلت الساحة إلا من مثقفي السلطة والانتهازيين مع بعض الاستثناءات. صحيح أن الأنظمة الشمولية المطلقة عملت على إقصاء المثقف وتشويه أدواره النبيلة، ومنعته من ولوج المؤسسات الثقافية والفكرية وكذا الاعلامية، وأنتجت نخبا جمعت بين الفساد والاستبداد، إلى جانب الثروة، فأصبح المجتمع العربي يعيد إنتاج نفس النماذج السيئة، والمتجاوزة من نخب ومؤسسات، (حسب بيير بورديو).


2

قامت هذه الثورات بدون مقدمات فكرية ولا ممهدات نظرية؛ أي دون تغيرات فكرية ومعرفية على شاكلة quot;الثورة الفرنسيةquot; التي سبقتها ثورة في الفكر السياسي؛ فالربيع العربي تنقصه ثورة فكرية، تمس القاع، وتنفذ الى جوهر المشكل في الوطن العربي.
لكي لا نغمط هذه الثورات حقها، فإنها لم تكن بشروط سابقاتها في بعض البلدان، مثلا انتفاضة اليمن ساهمت الى حد ما في تغيير ذهنية الناس، وطريقة تفكيرهم وسلوكياتهم، فرغم أن المجتمع اليمني تقليدي محافظ؛ فإن مشاركة النساء في الثورة الى جانب الرجال بشكل مختلط، يعد -بحد ذاته- حدثا هاما يؤشر على إمكانية ولوج المجتمعات العربية عالم الحداثة بسلاسة. فضلا عن ظهور بعض السلوكات المدنية كالعمل الذي قام به شباب الثورة في مصر في ميدان التحرير بعد نهاية الثورة، بتنظيف الشوارع والساحات، وكذا وقوفهم في الطابور بانتظام للإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء على الدستور.
إن سقوط الاستبداد هو عنوان الاستقلال السياسي لهذه البلدان العربية، تتلوها ثورة ثقافية تكون مقدمة لمحو أسباب الجهل المعرفي، لقد انقلبت معادلة ثورة ثقافية تمهد لثورة سياسية، إلى ثورة سياسية تكون مقدمة لثورة ثقافية. كما بين عبد الرحمن الكواكبي أن الفساد السياسي المتمثل في الاستبداد هو مصدر كل المشاكل، والقضاء عليه هو مفتاح تنمية الوعي الثقافي والفكري وغيره (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد).

3
البلدان التي حققت الثورة فيها نجاحا، أفرزت تيارين الأول إسلامي/أصولي، والثاني سياسي/متغرب وكلاهما يحملان مشاريع لا تحظى بقبول الجميع، فضلا عن توجس التيار الأول من الحداثة ومحمولاتها. والثاني يفتقد الى قاعدة شعبية تدعم طروحاته، كما اتسمت مرحلة ما بعد الثورة بعودة الصراع الايديولوجي، الذي سوف يؤخر عجلة الإصلاح والتنمية وتكريس الديمقراطية، ثم أن هذه البلدان في ظل الفراغات والعراقيل والمعوقات الثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، من الصعب أن تتحول الى بلدان ديمقراطية، رغم أن الشعوب امتلكت بعض سمات العصر؛ التقنية الحديثة جعلتها تطلع عن قرب على تطبيقات النموذج الديمقراطي للحكومات الغربية، وهو النموذج الذي أصبح يقيس عليه المواطن العربي الوضع في بلده، ويتمنى أن يعيش في كنف دولة مدنية تحترم حقوق الإنسان.

4
لا شك أن الغرب سيعمل على توجيه التحولات، ويدفع ببعضها الى أقصى مدى، في حين سيدع بلدان أخرى الى حين، وذلك، بحسب ما تقتضيه موازين القوى، وكذا مصالحه الاستراتيجية.
يبدو أن الفترة القادمة ستعرف مشاركة في الاستحقاقات الانتخابية في بلدان الثورة لأطياف الاسلام السياسي في الحكم، والفئات المهمشة، كما ستعرف المشاريع السياسية التي أخذت حظها من التجربة في السلطة انكفاء، لصالح فئة جديدة من المجتمع تلج عالم السياسة لأول مرة، في مقابل ذلك سيعمل التيار المضاد للتغيير، والمناهض لهذه الثورات، من كلا المعسكرين الغربي والعربي، الى السعي لتأجيج الصراع الطائفي والمذهبي والديني، وذلك للقضاء على الالتحام والوحدة التي ميزت هذه المجتمعات إبان الثورة وبعدها. وثمة من يرى اقتراح المجلس الخليجي انضمام المغرب والاردن له، يندرج في سياق احتواء هذه الغييرات الجارية.
تبقى الأنظار موجهة صوب التيار الليبرالي بنخبه ومؤسساته في الدول الديمقراطية، بحيث هل سيكون الى جانب هذ الشعوب المنتفضة ومطالبها؟ أم الى جانب طغمة/ عائلة حاكمة لم تعد صالحة لهذا الزمان؟ ففرنسا لم تبد أي مساندة للثورة التونسية في بداياتها، وهو ما استدركته في ليبيا، وكذا أمريكا ظلت مترددة ولم تحسم موقفها إلا بعد أن رجحت كفة الثوار المصرين للتغيير. ويعود هذا التردد الغربي في دعم هذه الدول لتكون دولا ديمقراطية، إلى مواقف وأفكار مسبقة على هذه البلدان غير صحيحة؛ بكون هذه الأخيرة ضد الديمقراطية الغربية، وبالتالي قبولها بالديكتاتورية بات أمرا طبيعيا لها، ومن ثم لا معنى لتدخل الغرب لفرض ديمقراطيته، إضافة الى ماكانت تبرر به هذه الانظمة الشمولية حكمها؛ بكونه صمام أمان يحول دون سيطرة الاسلاميين على السلطة، لذلك استفردت بالسلطة والثروة والحقيقة أمام أعين الغرب، وظلت هذه الأنظمة تتقرب الى الغرب زلفى بقمع شعوبها، الى أن جاءت نهايتها مخزية ومذلة.

المستقبل رهين بما يلي:
إن دعم هذه البلدان المنتفضة حتى يستوى عودها على الحداثة السياسية والقيم الديمقراطية، من أوجب واجبات الانتليجنسيا الغربية؛ لأن نتيجة هذه الثورات تعود لهذين العنصرين الحداثة والديمقراطية، في انبعاث ربيع ديمقراطي في العالم العربي على شاكلة ربيع أوربا الشرقية.
لكي لا ننسى في غمرة الحماس أن تغيير الاشخاص/الحكام في بلداننا العربية غير كاف، فلا بد من التفكير في تغيير العقليات التي أنتجت الاستبداد، لأنها مازالت قائمة وتتجدد، أحسب أن كل عربي مهما اتخذ لباسه من أشكال،- سواء كان معمما أو بلباس عصري أو تقليدي، وهي بالطبع تعبيرعن توجهات سياسية وفكرية؛ ما بين الحداثة والقدامة والأصالة والمعاصرة...- يرقد في ذهنه مستبد صغير ينتظر الفرصة لكي يصبح كبيرا، المؤسسات القائمة في ربوع الوطن ظاهرها حداثي وباطنها تقليدي، لقد استعارت من الغرب الحداثي كل مظاهر الحداثة، إلا جوهرها الذي قامت عليه.