لطالما كان الإعلام مهنة ذات أبعاد إنسانية رسالية تهدف إلى نقل معاناة الناس وإيصال صوتهم إلى أصحاب الشأن والاختصاص، وتسليط الضوء على الأزمات والمشكلات والحيثيات التي لا يصل فيها صوت المواطن في الدولة الوطنية الحديثة، من خلال الطرق والسبل الاعتيادية.
قضية اغتيال الزعيم الفلسطيني التاريخي ياسر عرفات أبو عمار عادت لتحتل مشهد الحدث الفلسطيني والعربي (وربما الدولي مستقبلاً) بعد تقرير استقصائي بثته قناة الجزيرة القطرية حول ملابسات وحيثيات اغتيال الزعيم الفلسطيني، التي تم التكتم عليها حينها وفق توافقات فلسطينية- عربية ndash; دولية لتمرير أحداث واستحقاقات معينة.
الجزيرة القطرية quot;مشكورةquot; على جهدها وسعيها إلى استكشاف الحقيقة، والوقوف على معالم جريمة يعلم أصغر طفل فلسطيني، كما قال مستشار الرئيس الفلسطيني السابق بسام أبو شريف، أنها وقعت اغتيالاً وبتواطؤ كبير من أكثر من جهة فلسطينية وعربية ودولية، لكن الطريف في الأمر، والشيء بالشيء يذكر، أنه إذا كانت قناة الجزيرة المصنفة ضمن سياق القنوات quot;المغرضةquot; وquot;المثيرة للفتنةquot; وفق تصنيف بعض التيارات العربية، التي اضمحلت مع مرور الوقت، تحاول quot;إثارة الفتنةquot; الداخلية الفلسطينية، وتسليط الضوء بعيداً عن الملف السوري الأكثر تعقيداً وإلحاحاً في الوقت الراهن، لغايات وأغراض إراحة المشتبكين والمنخرطين في الملف من التركيز الإعلامي على تحركاتهم، فما بال بعض القنوات quot;المواليةquot; (كالميادين) على سبيل المثال، تنخرط في سياق الضجة الإعلامية، وتشارك quot;الجزيرةquot; حملتها من خلال بث تقرير عن جاسوس اعترف فيه بتسميم الرئيس أبو عمار، بصرف النظر عن القيمة الإعلامية للتقرير ذاته، والذي لا يرقى إلا إلى اعتباره quot;وسيلة إثباتquot; يمكن أن تستخدمها السلطة الفلسطينية تالياً لاتهام القناة quot;بالتضليل الإعلاميquot;!؟
والحال أن انسداد أفق الأزمة السورية وسبل إيجاد حلول سياسية أو توافقية لها، قد يكون الدافع وراء إطلاق هذه الحملة الإعلامية للتعتيم على الشأن السوري من خلال إبراز وتسليط الضوء على ملف كاد ينسى بالنسبة للمشاهد العربي والدولي، وهو الملف الفلسطيني، ومن أفضل من ملف اغتيال الرئيس الراحل أبو عمار لإعادة الحياة والضوء إلى الملف الفلسطيني في ظل انسداد الملفات والتفرعات الأخرى، كالمصالحة وحكومة الوحدة الوطنية والانتخابات وحصار غزة....
لا يمكن بحال من الأحوال غض الطرف عن موقف السلطة الفلسطينية التي سارعت إلى إبداء الرغبة في التعاون حول ملف التحقيق باغتيال عرفات، ولنا أن نسأل: هل المسارعة في التعاون أو إبداء الرغبة في الكشف عن ملابسات الاغتيال الآن لا يخدم السلطة التي وصلت إلى طريق مسدود على مستوى التفاهمات السياسية، وبدأت شعبيتها تتآكل بعد مظاهرات رام الله الاحتجاجية على زيارة موفاز والتنسيق الأمني واتفاق أوسلو برمته، وبعد أن علقت السلطة على رأس شجرة الذهاب إلى الأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطينية كاملة العضوية، واصطدامها بالرفض الأمريكي والغربي، وعقابها على تلك المحاولة quot;اليائسةquot; بتخفيض المعونات المالية الدولية لها؟
المشكلة في جريمة اغتيال أبو عمار أن ذاكرة الناس القريبة لم تنس بعد تواطؤ النظام المصري البائد (ممثلاً باللواء عمر سليمان مسؤول الملف الفلسطيني حينها) مع حكومة شارون ومن والها في الولايات المتحدة، للتخلص ممن أدرك أخيراً (أبو عمار) أن أفق التسوية السياسية قد وصل إلى سد لا منفذ منه، فأطلق الكفاح الشعبي ويد حركة حماس وكتائب شهداء الأقصى بالذات، لمواجهة ما وصلت إليه العملية السلمية.
هو التعتيم إذن على الملف السوري والتقاط الأنفاس ريثما يتم التوافق والاتفاق على مخرج سياسي، من خلال تسليط الضوء على الملف الفلسطيني الأكثر إلهاباً للمشاعر الشعبية الفلسطينية والعربية، ملف اغتيال أبو عمار، وهو ملف قد يكشف الخوض فيه عن حجم التضليل الذي قد مورس أو سوف يمارس لتوريط بعض الأطراف الفلسطينية في جريمة التواطؤ أو السكوت عن التحقيق في الجريمة حتى اليوم، وقد يفضي إلى توريط البعض بالتزامات قانونية وسياسية إذا ما قرر العرب والفلسطينيون الذهاب بالملف إلى محكمة الجنايات الدولية لنخرج بصيغة من التوافقات والاتفاقات حول ضرورة تمرير ملفات أخرى (اغتيال الحريري واتهام الرئيس البشير وغيرهما) مقابل السماح بتشكيل محكمة دولية جديدة.. quot;قدquot; لا تسمن أو تغني من جوع، في ظل انكشاف القاتل واتضاح هويته.

... كاتب وباحث
[email protected]