بعد تحريرهم لمدينة كوباني في 19 من يوليو الجاري، سقطت ثلاث مدن كردية أخرى تباعاً، هي عامودا وعفرين وديريك، في قبضة الثوار الأكراد، خلال 24 ساعة. قامشلو، التي تتميز بأهمية استراتيجية كبيرة، والتي توصف في الأدبيات السياسية لأكراد سوريا، بأنها quot;عاصمةquot; إقليمهم الكردي المحتمل، رغم ورود أخبار عن quot;تحريرهاquot; أو quot;استلامها وتسليمهاquot; في الأيام الأخيرة الماضية، إلا أنها لا تزال نسبياً تحت قبضة قوات النظام الأمنية، وتشهد حالةً من الهدوء الحذر. سقوط قامشلو في قبضة الأكراد سيكون له أكثر من معنى سياسي، كردياً وسورياً وإقليمياً(تركياً بالدرجة الأساس).
التنسيق الكامل بين المجلسين quot;الوطني الكرديquot;(المكون من 12 حزباً كردياً) وquot;الشعب لغربي كردستانquot; التابع لحزب الإتحاد الديمقراطي المقرّب من العمال الكردستاني، هو أحد أبرز علامات هذا التحرير، والتي تؤكد حتى اللحظة على التزام الطرفين ببنود quot;إعلان هوليرquot; الموقع في 11 يوليو الجاري بينهما، بإشراف مباشر من رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني.
الكلّ، على مستوى المعارضات السورية، بعربها وأكرادها، متفقٌ على عملية quot;التحريرquot;، أي تحرير المكان السوري من احتلال النظام له، لكنّ اللامتفق عليه، لا بل المختلف عليه جداً، هو إسم المكان الكردي المحرر نفسه على قادم الخارطة سوريا.
فهل ستسمى هذه المدن مع أخواتها من المدن الكردية السورية الأخرى، بعد عملية التحرير بquot;كردستان سورياquot;(على غرار كردستان العراق) أم ستسمى بquot;كردستان الغربيةquot; أو quot;غربي كردستانquot;(كما يقول إسم المجلس الكردي التابع لحزب الإتحاد الديمقراطي)، أم ستسمى بمسميات أخرى quot;مكرهةquot;، خارجة عن سياقاتها الكردية؟
الأكراد بمجلسيهما قالوا كلمتهم الفصل في هذا الأمر. كلاهما، بحسب لسان حاليهما، لن يقبلا بأقل من quot;الفيدارليةquot; أو quot;اللامركزية الإداريةquot;، لنيل حقوقهم القومية كquot;شعب كرديquot;، ضمن حدود سوريا موحدة. هم يطالبون كإخوانهم في العراق بquot;إقليم كردستانquot;(هم) أو شيئاً من هذا القبيل، لإدارة مناطقهم بأنفسهم، ما يعني تمتعهم بنوع من الحكم الذاتي أو الفيدرالي شبه المستقل عن المركز، كما هو حال العلاقة بين العراقَين، أي بين هولير في الإقليم وبغداد في المركز. قبل أيام، أعلن المجلسان الكرديان على خلفية تحرير بعض المدن الكردية، من أربيل/ هولير عن تشكيل quot;هيئة كردية علياquot; لإدارة quot;إقليمهم الكرديquot;. المتحدثون الرسميون بإسم هذه quot;الهيئةquot;، أعلنوا صراحةً بأنهم يطالبون بquot;إقليم كردي في سورياquot; على غرار إقليم أخوانهم في كردستان العراق.
هذا الطرح السياسي، يتم تطبيقه الآن عملياً على الأرض، في المدن الكردية المحررة، من قبل الثوار الأكراد، حيث يرفعون الأعلام والرايات الكردية على المباني والمؤسسات الحكومية، ويطردون أجهزة وقوى النظام، ويستبدلونها بأخرى كردية، لإدارة شئون هذه المناطق، كردياً، حتى إشعارٍ آخر، وسوريا أخرى لم تتوضح معالمها بعد.
إذن الكلّ الكردي، سياسةً وإجتماعاً وثقافة، ناهيك عما بينها من quot;تاريخٍ ضالّquot; وquot;جغرافيا مضللةquot;، يكاد يكون مجمعاً في هذا المكان الكردي السوري المحرّر للتوّ، على هذه quot;الحقيقة الكرديةquot;(السورية ههنا)، والتي تصرّ على تسمية المكان الكردي، بإسمه الحقيقي: quot;كردستان وطن الأكرادquot;، المقسمةً بين أربع دول تشكلّت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية.
النخبة السياسية الكردية السورية تكاد تكون مجمعة على قضية وجود أكرادها السوريين، كشعب يعيش على أرضه التاريخية، إسمها quot;كردستان سورياquot;. هم يطالبون منذ بداية الثورة بquot;إقليم كردستانهمquot; ضمن حدود سوريا الواحدة الموحدة.
لكنّ المعارضات السورية(العربية تحديداً) في المقابل، بكلّ تياراتها القومية والإسلامية والليبرالية لا تعارض quot;حقيقة كرديةquot; كهذه فحسب، وإنما ترفضها أيضاً جملةً وتفصيلاً. هي لا ترفض الإعتراف بquot;كردستان سورياquot; مكاناً لأكرادها فحسب، وإنما ترفض الإعتراف بهم كquot;شعبquot; أيضاً. فهناك من أهل هذه المعارضات العربية من أصرّ على quot;عدم وجود شيء إسمه كردستان سورياquot;، وشبّه أكرادها بquot;بمهاجري فرنسا الإفريقيينquot;(د. برهان غليون)، ومنهم من رفض التعامل بالقطع مع قضية أكراد سوريا على أساس quot;كردستانيquot;، ورفض وجود شيء إسمه quot;شعب كرديquot;( حسن عبدالعظيم)، ومنهم من حجب على الأكراد السوريين حقهم في تقرير مصيرهم(سمير نشار) بدعوى أنه حقٌ يفتح الطريق أمام الإنفصال ويشرّعه، ومنهم من quot;طزطزquot; بالأكراد وquot;استكردهمquot;(د. موفق السباعي)، ومنهم من لا يريد التطرق إلى شيء إسمه quot;شعب كرديquot; وينصح الأكراد بأن quot;ينسوا الأمر حتى بعد الثورةquot;(هيثم المالح)، ومنهم من يرى الأكراد بأنهم quot;ليسوا على قلب رجل واحدquot; وquot;لا يحق لهم سوى الحقوق الإجتماعية والثقافية ضمن الوطن الواحدquot;(محمد رياض الشقفة)، والقائمة تطول.
وما انسحابات الأكراد المتكررة من مؤتمرات المعارضات السورية(كانت آخرها في مؤتمر القاهرة، في 2و3 من الشهر الجاري)، إلا احتجاجاً على سياسة رفض الإعتراف بالأكراد بإعتبارهم quot;شعباً يعيشون على أرضهم التاريخيةquot;. الأمر الذي أدى إلى خلق نوع من اللاثقة واللاإئتمان واللاإطمئنان بين الطرفين. ما دفع بالبعض الكردي السوري المعارض إلى القول في حينه: quot;إذا كانت هذه هي عقلية المعارضة السورية، فمرحباً ببشار الأسدquot;، ليس حباً بهذا الأخير بالطبع، وإنما كرهاً بالعقلية الإقصائية، التي لا تزال تتبعها الكثير من أقطاب المعارضة السورية، عربياً، والتي من المفترض بها أن تكون البديل القادم للنظام.
إذن، بالعودة إلى الأكراد وتحريرهم لمدنهم، يمكن القول أنّ المشكلة الأساس اليوم ليست في تحريرها، بقدر ما أنها ستكمن في ما بعدها. المشكلة ليست مشكلة تحرير، وإنما هي مشكلة ما بعد التحرير وماورائه.
مشكلة سوريا على العموم، لم تعد تكمن في تحريرها من النظام، الذي بات قاب قوسين أو أدنى من السقوط، بقدر ما أنها ستكمن في تسييرها من بعده.
الأكراد حرروا الآن أربعة من أهم مدنهم من النظام، وحبل تحرير قامشلو(أهم وأكبر مدينة كردية سورية) هو الآن على الجرار.
هم، سيحررون إلى جانب أخوانهم السوريين الآخرين، مكانهم الكردي السوري من رجس النظام، لكنّ السؤال الذي يبقى هو:
هل سيستطيع الأكراد بعد تحريرهم لمكانهم، أن يحرروا زمانهم من عقلية النظام؟
هل سيستطيع الأكراد مواصلة هذا التحرير، للإنتقال به من تحرير على الجغرافيا، إلى تحرير في التاريخ والثقافة والسياسة؟
سوريا بعربها وأكرادها وآشورييها وسريانها وتركمانها وأرمنها، ومسلميها بسنييها وعلوييها ودرزييها واسماعيلييها، ومسيحييها وإيزيدييها ويهودييها وسائر موزاييكها الكثير والجميل، ستتحرر من عقال النظام، لكن السؤال الأساس والأهم ههنا، هو كيف ستتحر سوريا كلّها من عقل النظام؟
التعليقات