عندما اقترحت الامم المتحدة بداية عام 2004 ان يكون للعراق مفوضية مستقلة تشرف وتدير العمليات الانتخابية في العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري، فانهااستندت على جملة مبادئ في طرحهالهذه الفكرة اهمها لزوم استقلالية هذه الهيئة عن الاحزاب والكيانات السياسية بشكل كامل، وافتراض ان يكون اعضاء مجلس مفوضيها اشخاصا لا علاقة لهم باي حزب او تشكيل سياسي لضمان حيادية واستقلالية عملها ولتخرج نتائج الانتخابات صادقة وشفافة ونزيهة.
عضو سابق لمجلس مفوضية الانتخابات

تقول كارينا بيريللي رئيسة قسم المساعدات الانتخابية في الامم المتحدة عن ذلك، انها قدمت الى مجلس الحكم لائحة باسماء (16) شخصاً انتقتهم لجنة خاصة في الامم المتحدة من بين 1887 اسماً لاختيار ثمانية منهم الا ان اعضاء مجلس الحكم، الذي الفه بول بريمر، ارتابوا بالاسماء المقدمة واصروا على طرح اسماء بديلة من الاقارب والاخوان والخلان والحزبيين مما دفع الامم المتحدة الى التهديد بألانسحاب من العملية الانتخابية في العراق فرضخ مجلس الحكم بعدها للتهديد موافقا على ان تقوم الامم المتحدة باختيار اعضاء اول مجلس للمفوضين فاستقدمت الامم المتحدة ثلاثة قضاة دوليين لاجراء المقابلات مع الـ (16) شخصاً لانتقاء ثمانية منهم حيث ظهر فيما بعد ان سبعة منهم كانوا من المستقلين بالفعل فيما استعمل عضو واحد ذريعة quot;التقية السياسيةquot; بالاعلان عن الاستقلالية ليظهر تالياً انه كان تابعاً لحزب معروف. ولكن ومع ذلك فإن ذلك العضو لم يستطع ان يؤثر على اي فعل استقلالي للمفوضية لوجود اغلبية ساحقة من المستقلين في مجلسها الذي لم يساوم قيد انمله في اظهار النتائج الحقيقية وفي الغاء الصناديق المزورة في العمليات الانتخابية التي اجرتها خلال عامي 2005 ndash; 2006.

لقد افهم المجلس عند بدء عمله كافةالكيانات السياسية بلزوم احترام استقلالية ومهنية عمل المفوضية ولم يسمح باية تجاوزات او ضغوط مهما صغرت مما دفع بعض الكيانات السياسية الحاملة لطموحات معينة الى انتظار اول فرصة سانحة للاجهازعليه والخلاص منه وهذا ما حصل فعلاً، فبدلاً من توجيه الشكر له وتكريمه لما قدمه من جهد في تأسيس المفوضية من نقطة الصفر وفي اظهار نتائج صادقة لخمسة انتخابات اجراها على مدى نحو عامين، احال مجلس النواب اعضاء مجلس المفوضية على التقاعد رافضا التجديد لهم لفترة اخرى رغم الاعتراف لهم بالمهنية وبعمق الخبرة والمعرفة في المجال الانتخابي. وسارع مجلس النواب مستلهما فكرة مجلس الحكم، الى ادخال المفوضية في لعبة المحاصصة الحزبية باختيار مجلس آخر من اعضاء تابعين لاحزاب السلطة وبذلك تشظت المفوضية بين تلك الاحزاب واصبحت عرضة للاستجوابات والملابسات الكثيرة التي لا تخفى على الجميع.

لقد راعت الامم المتحدة، عند اختيار المجلس الاول ان يكون المفوضين الثمانية ممثلين لجميع مكونات واطياف الشعب العراقي من الشيعة والسنة والمسيحيين ومن الاكراد والتركمان والعرب ولكنها حرصت، قدر الامكان، ان يكون هؤلاء من البعيدين كل البعد عن الكيانات السياسية القائمة. اما بعد ذلك وعندما اصبح قدر المفوضية تحت جنح مجلس النواب، فلم يعد هناك اي تأثير لبعثة الامم المتحدة، بل انقلب الامر رأساً على عقب واصبح اختيار اعضاء مجلس المفوضية مشروطاً بتبعيتهم للاحزاب والكيانات السياسية القائمة وكانت النتيجة طبعاً ان اصبحت المفوضية تتأثر بشكل كبير بالتجاذبات السياسية وباي خلاف يبرز بين تلك الكيانات بل واصبحت نتائج الانتخابات التي تجريها المفوضية مدعاة للشك والريبة وما الضجة التي حصلت اثناء انتخابات مجالس المحافظات ومن ثم انتخابات مجلس النواب عام 2010 حيث تم التشكيك بالنتائج المعلنة ومن ثم اعيد العد والفرز في بغداد الا تأكيد على صوابيه الرأي الذي اشرنا اليه.

اليوم يتواصل الكلام مجدداً لاختيار مجلس ثالث لهذه المؤسسة مؤلف من تسعة مفوضين تم تقسيم حصصهم بين الاحزاب والكيانات السياسية الحاكمة، ويبدو ان لجنة الاختيار التي الفها مجلس النواب توصلت بعد اقصاء الالاف من المتقدمين لاسباب واخرى، لاختيار (60) شخصاً ومع ذلك لم تستطع اللجنة الحكيمة، نتيجة الخلافات السياسية الحادة من التوافق مما دفعها الى الطلب من رؤساء الكتل اختيار الاسماء التسعة الذين سيكونون المجلس الجديد.

ومما يثير الحيرة حقا انه، الى جانب التخبط في وضع شروط الاختيار ومحاولات الاقصاء المتعمدة لمرشحين يمتلكون كفاءة عالية وخبرة متراكمة في العمل الانتخابي، يجري تداول مقترح بزيادة عدد اعضاء مجلس المفوضين الجديد من (9) الى (13) مفوض لارضاء الكيانات السياسية المعترضة على حصصها في مجلس المفوضية وتسهيل العمل بالمحاصصة الحزبية بعد الخلافات التي دبت بينها علماً بان قانون مفوضية الانتخابات المعمول به ينص على ان يتشكل مجلس المفوضين من (9) اشخاص فقط.

ان التوجه لزيادة عدد المفوضين سيكون بمثابة طعنة جديدة توجه لهذه المؤسسة قد تؤدي الى اغتيالها لانه سيزيد من ارباك عملها وقد يعطله بشكل تام ذلك لان تجربتنا في المجلس الاول اظهرت ان وجود (8) مفوضين كان اكثر من اللازم اذ يمكن لاربعة او خمسة مفوضين بما فيهم رئيس الادارة الانتخابية ان يديروا المفوضية وينجزوا العمليات الانتخابية بكل اقتدار ومسؤولية بعيداً عن النقاشات الفارغة والتي لا معنى لها عند زيادة العدد، كما ان ذلك يقلل من المصروفات الباهظة للرواتب والسيارات والبيوت والسفرات والمرافقين.

نعود الى اصل الداء ونقول ان مجلس النواب وكياناته السياسية وقع عام 2007 في خطأ كبير عندما تخلص من المجلس الاول المستقل واقام مجلساً جديداً وفقاً للمحاصصة السياسية فأضعف بذلك قدرة المفوضية على التحرك والعمل المستقل وحولها الى مسرح للتجاذبات السياسية.

وبالرغم من اعتراف الكثير من اعضاء مجلس النواب بان ذلك المسار قاد الى اضعاف قدرة مفوضية الانتخابات على اجراء عمليات تتسم بالصفاء والمصداقية، الا ان هذا الاعتراف بقي في نطاق القول دون الفعل الذي لم يتغير قيد انملة. فهاهو ذات المجلس، وها هي ذات اللجنة quot;الحكيمةquot; تسير وفقاً للنهج الخاطئ السابق، نهج المحاصصة السياسية لانتخاب مجلس المفوضية المنتظر الذي سيكون بحاجة لفترة تتجاوز الستة اشهر للتعلم واستحصال الخبرة اللازمة في العمل الانتخابي.

ان فشل اللجنة في عملية الاختيار الاخيرة لا يدلل الا على انها لم تستطع منذ البداية ان تضع الشروط الواقعية لعملية الاختيار فأخرجت مرشحين بالمئات دون دراسة طلباتهم بشكل واقعي مما ابعد الكثير من الذين يحملون الشهادات العليا والخبرة والكفاءة في العمل الانتخابي وبشكل لا تفسير له سوى ان هذه اللجنة تنظر بعين ثاقبة لتحقيق مصالح الاحزاب السياسية دون مصلحة المفوضية علما بأن بعض اعضاء هذه اللجنة، وكما ذكرفي اكثر من مكان، رشحوا اقرباء لهم بدون معرفة رئيس كتلتهم ليكونوا مفوضين بهدف الاستفادة المادية وهو امر يرتقي فيه هذا الفعل الخاطئ ليكون بمصاف الخطيئة الوطنية.

ان السبيل الامثل لانقاذ مفوضية الانتخابات من عملية الاغتيال التي تتعرض لها ان يتم تعديل مسار اختيار مجلس المفوضين فيها والعودة الى تكريس استقلالية اعضائه ليس قولاً بل فعلاً وذلك من خلال تكليف لجنة من كبار رجال القانون العراقيين المشهود لهم بالنزاهة والاستقلالية والضمير المهني الشريف وبمشاركة خبراء من الامم المتحدة لوضع شروط جديدة وواقعية لاختيار الاعضاء ومن ثم تقوم هذه اللجنة باعادة دراسة الاستمارات الموجودة حالياً لانتقاء الاعضاء التسعة بعيداً عن اية محاصصة حزبية.

بقي ان نقول امرا مهما وهو ان المفوضية المستقلة تعمل دوماً لصالح جميع الاحزاب والتيارات السياسية فمن كان قوياً على الارض ستظهر المفوضية قوته في صناديق الاقتراع دون اي تزوير او مساندة، اما محاولات السيطرة على المفوضية فانها لا تعطي سوى الانطباع بان الهدف هو توفير امكانيات التزوير لصالح المسيطر وهذا ما سنتحدث عنه في مقال اخر.