تفخر بلدان العالم بإستيزار كبار الكتاب والفنانين والمثقفين لمنصب وزير ثقافة، ويعتبر إستيزار وزير للثقافة عرساً من أعراس الدولة لما تشكله الثقافة في البلدان المتحضرة من أهمية في حياة الشعوب. والإستعمار الفرنسي عندما يغادر البلدان التي يستعمرها، لم يستطع حتى ثوار تلك البلدان من تخليص بلدانهم من التركات الثقافية لما تشكله الثقافة من رسوخ البنيان في الحياة الإنسانية. والثقافة تشمل اللغة وتشمل الأدب والفن وتشمل لغة كتابة القوانين، كما تشكل الثقافة ثقافة العيش وثقافة السلوك وهذا لن يتأتى بمحض مصادفة إنما عبر زمن طويل تنتعش فيه الثقافة ويتأسس فيه الوعي وينمو ويتطور ويتألق. وعندما يتألق الوعي ويتألق الأبداع يصبح الوطن راسخاً لا يمكن تهديمه ولا يمكن حتى أن يظهر فيه لص واحد حيث وعي الناس كفيل بإسقاط الدولة كاملة لو تم إكتشاف لص واحد بين منتسبيها.
عانت الثقافة العراقية وعانى المثقفون العراقيون عبر عشرات السنين من الإصطهاد بأشكال مختلفة، منها التخلف الإجتماعي ومنها سمات الدكتاتورية التي حولت الثقافة إلى عملية إعلامية لخدمة مرضها الإيديولوجي، وتعاني اليوم من أخطر مرحلة في تاريخ العراق وتسخر لذات الهدف الذي كرسه الدكتاتور من الثقافة!
منذ سقوط النظام السخيف السابق وحتى اليوم يعاني العراق من مشكلات جمة يلعب الفساد في تدهور الوطن دوراً كبيراً، فبدلا من أن يشكل عامل سعادة للوطن وعامل إنتعاش وتألق للثقافة أصبح الفساد اليوم مشكلة كبيرة تعيق العملية السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية. ليس هذا فحسب بل أن رغبة الفساد والإفساد تحتم تدني المستوى الحسي والجمالي وذلك بإضطهاد الثقافة والتخلص من المثقفين إو إبعاد المبدعين منهم ليحل محلهم نفر من الأميين ومن سقط المتاع. فشكلت وزارة الثقافة العراقية منذ تأسيسها بعد سقوط النظام حتى الآن العامل الخطير في تدهور الثقافة العراقية. وصارت الوزارة مكانا للصراع الطائفي والإنتفاع الشخصي، فما بين وزير شيوعي متخندق في شيوعيته ومفيد لبعض رفاقه للإستفادة من مرحلة طارئة لم يحقق فيها سوى التخلف إلى وزير يحيط به وكلاء وزارة من الملالي المتعاركين للإستحواذ على المنافع فيما المثقف العراقي مغيب عن واقعه بل مصاب بالرعب من أية طلقة كاتمة للصوت تطلقها عليه عمامة من عمائم الزمن الرديء في العراق الغالي.
اليوم يقف ويقعد على رأس الثقافة وزير دفاع!
من يحمي الوطن إذاً؟! هذا إذا كان الوطن بحاجة إلى حماية!
من المضحك حقا أن يحتل وزير الدفاع وفي فترة من أصعب فترات العراق حرجاً يحتاج فيها الوطن أن يحمي نفسه من أعداء خارجيين كثر ومن أعداء داخليين أكثر تم إفتعال وجودهم بقصد إرباك الوطن وجعله مرتعا للفساد، أن يشغل وزير دفاع الوطن وزارة الثقافة! فهل العراق حقا موطن العبقريات في التاريخ بحيث يمتلك فيه الشخص قدرتين متناقضتين تماما وصعبتين تماماً بحيث يتمكن من حماية سماء الوطن وحدود الوطن وفي ذات الوقت يتمكن من حماية الثقافة الأداة الأصعب في العملية الإنسانية!؟
ثمة سؤال يوجه أولا إلى السيد رئيس الوزاء؟! ما هي معلوماتك عن حجم المثقفين العراقيين في شتى ألإختصاصات الثقافية وأدوات تعبيرها المكتوبة والمسموعة والمرئية؟ كم كاتب وفنان وصحفي يعيش داخل العراق وأيضا خارج العراق من بين أربعة ملايين مغترب؟ وعشرين مليون مقيم؟! وما هي قدرات وعطاءات هؤلاء المبدعين وماذا حققوا لوطنهم وفي غربتهم ومن غربتهم وفي وطنهم؟! هل تعرف عنهم شيئاً!؟
سؤال آخر يوجه للسيد رئيس الوزراء!؟ كم قصة قرأت في حياتك، وكم من الأفلام شاهدت، وكم من مقطوعات الموسيقى سمعت، وهل دغدغ سمعك سحر السمفونيات، وهل شاهدت باليه في حياتك، هل قرأت رواية واحدة في مسار حياتك الثقافية؟!
أنك لم تقرأ سوى رواية واحدة وأظن وأغلب الظن أنك سمعتها شفاهاً وهي رواية الأمام الحسين التي تقدم وهي ملأى بالإضافات والأكاذيب لتقدم بشكل غير معقول وأنت مصدقها بالضرورة وبالتأكيد!
إن الدين أصارحك يتقاطع مع الثقافة تقاطعا كاملا لأن الثقافة تقوم على كشف الحقائق الموضوعية فيما الدين يعمل على تغييبها!
وأكبر دليل على جهلك الثقافي أنك سلمت وزارتين متناقضتين لوزير واحد هو نفسه لا يفقه شيئاً في الثقافة ولا حتى بالثقافة في جانبها الوطني بدليل وهو يخطط لسنة قادمة أن تكون بغداد عاصمة الثقافة تكتب الصحف عن التعامل مع ثلاثة مخرجين من أتباع النظام السابق بشكل قح واحد يعيش في دبي لا يزال ينظر للدكتاتور وآخر ذهب إلى الكويت لسرقة المعدات التقنية الكويتية والأشرطة المصورة والمسموعة وعمل فيلما لصالح مخابرات صدام وأنتج ستا وعشرين حلقة عن غزو الكويت بإشراف طارق عزيز وثالث صاحب فيلم حمامات الدم ضد عبد الكريم قاسم ومشوه ثورة العشرين في فيلم المسألة الكبرى ومنتج لفيلم وثائقي عن الدكتاتور لم ينجز بسبب سقوط النظام. هذا هو وزير ثقافتك وبالأمس أيضا ألغيت النجف كعاصمة ثقافية بعد أن تم إقرارها في مؤتمر دولي!
هذا هو حال الثقافة أيها السيد رئيس الوزراء في عهدكم الميمون وفي عهود من سبقكم بعد سقوط النظام الأهوج الذي تعيدون رموزه اليوم إلى الحياة وتؤكدون ما فعله الدكتاتور في حرمان خيرة أبناء العراق من العيش والإبداع في وطنهم فعملتم ما في وسعكم لإبقاء المهجرين مهجرين في بلدان لجوئهم بل وعملتم على إغتيال من يعيش داخل الوطن حتى يهربوا وتبقى الساحة العراقية خالية من الثقافة كي يعبث بها أيتام النظام السابق إلى جانب الثقافة الملائية المتخلفة التي كل خزينها حكاية واحدة تتلى منذ ألف وأربعمائة عام وبشكل مغلوط ومشوه!
لنفترض وهو مجرد إفتراض، أرجو أن تنتبه، مجرد إفتراض، أنك أنسان طيب مغلوب على أمرك، وأنت لست شريراً، وأنت رجل وطني تريد الخير لبلادك، مؤكدا هو مجرد إفتراض، وأنك لا تعرف في الثقافة الف بائها، وأنت تعرف بالسياسة وتعلمت بعضا منها خلال فترة نضالك الديني في حزب الدعوة، وجاءتك السلطة جاهزة بدون مشاكل لأن من أوصلك إليها لا يزال مهجرا وهو شعب المعارضين والمهجرين، ولعبتم لعبتكم الإمريكية وجئتم إلى السلطة وتريد أن تخدم الوطن كي يدخل أسمك التاريخ، في الأقل أن تقف أمام الفساد وقفة الوطني الشجاع أولا، وأن تتخذ من المبدعين في شتى الإختصاصات مستشارين لحكمك كما فعل الحكام في التاريخ وهم يدلونك على الطريق الصحيح، لكننا لو نظرنا إلى من حواليك نجدهم يكملون معك المهزلة، فهم ليسوا عراقيين أولاً، وثانيا لا علاقة لهم بالإبداع في كل المجالات الثقافية والإقتصادية والعسكرية والسياسية. وهذا هو الذي وضع الوطن في محنة أصبح الخلاص منها متساو مع الدم والثمن المؤلم الذي سيدفع من جديد وكأن حروب الدكتاتور لم تكن كافية، وما لون بها من مياه دجلة والفرات وشط العرب من الدم والأسلحة الملوثة للماء وللبيئة غير كافية، كي تأتي أنت ومن قبلك ومن بعدك كي تربكون الأوضاع من جديد فننتظر تغييراً آخر لا ندري إلى أين سيقود، أو أن تندلع حرب أهلية ضروس سوف تموتون أنتم فيها ولن يكون ثمة ناج ولا ثمة رابح. سيكون الوطن هو الخاسر والخاسرون هم أبناء الوطن.
إن وزارة ثقافتكم أيها السيد رئيس الوزراء هي لا شيء. لا علاقة لها بالثقافة وتركيبتها بالأساس قائمة على الخطأ وبدليل أن وكيل وزارتها أصبح بين ليلة وأخرى نداباً يتوجه بالنقد لوزيره ولرئيس وزرائه بعد أن شبع وحقق لذاته كل ما يشتهي، وهكذا بدأ يعلن مثل غيره من وزرائك أن بين يديه وثائق صار يلوح بها وأنتم بين يديكم وثائق تلوحون بها ضده!
إن المثقف العراقي شئت أم أبيت، شاء من شاء وأبى من أبى، سوف لن يتوقف عن الإبداع، فالمبدع مدمن لن توقف إدمانه الثقافي كل المسكنات أو المهيجات. هو حالة معطاءة متفجرة أينما كان وفي أي زمان كان. هو مثقف رغماً عنك ورغما عن وزير دفاعك في الثقافة. المثقف العراقي هو حالة تاريخية أزلية، وأنا هنا عندما أتحدث عن المثقف فإنما أعني المثقف المثقف. المثقف الأصيل. المثقف العراقي الذي أبدع في أقسى وأصعب الظروف، لا أقصد المثقف الإنتهازي أو المتخلف لأن الثقافة هي التطابق بين ألإبداع والسلوك، فليس ثمة مثقف أنتهازي وليس ثمة مثقف متخلف. هؤلاء أدعياء الثقافة منتشرون أيضا وتظهر أسماؤهم على شاشات التلفزة أو في صفحات الصحافة المتخلفة ونحن نعرف تماما شكل الصحافة ومصادرها ونعرف الأنذال فيها واللصوص والمدعين. لا أقصد هؤلاء. هؤلاء ليس لهم وجود في ضمائر المتلقين، في ضمائر العراقيين وحتى غير العراقيين. يعرفونهم ونحن نعرفهم. أنا هنا أتحدث عن ثقافة تتألق مع الوجود وتكشف الواقع بعين واعية أنتم بعيدون عنها تماما أيها السيد رئيس الوزراء وأيها السيد وزير الثقافة. أرجوكم أن تتركونا أيها السادة ليس رأفة بنا بل رأفة بأنفسكم. وهنا أتذكر الإمام الحسين الذي بكى من أجل أعدائه أنهم سوف يدخلون النار، وأنا هنا أبكي من أجلكم لا لأنكم سوف تدخلون النار. فالنار عندي هي جحيم الحياة وجحيم موت الضمير وليست نار الآخره! أن تكون على رأس السلطة وأنت ترى وطنا كاملا يتدهور وأطفالاً يولدون مشوهين ونساءً يمتهن الدعارة في وطن الغنى والشرف، وترى المبدعين يعانون في المنفى أنهم بعيدون عن وطنهم وأن كل الذي ناضلوا من أجله صار هباءً. أنا أبكي من أجلكم والله إن كنتم من أبناء العراق، أما إذا كنتم من أصول غير عراقية سواء أنت أيها السيد رئيس الوزراء أم الذين حولك فهذا يعني شأناً آخر، يعني أننا لا نزال تحت الإحتلال.. وهذا أمر مخيف حقاً.
ضمن هذا الواقع ليس للوطن سوى الثقافة والمثقفين الذين عليهم أن لا يتخلوا عن وطنهم بكلمة صادقة بموقف شجاع برواية معبرة بقصة قصيرة طويلة بفيلم سينمائي معبر، بأغنية تطرب السمع وتوقد الشجن في النفوس، بقصيدة شعر حلوة لشاعر جميل.
كل شيء إلى زوال أيها السادة، ولكن لا يزال كلكامش بيننا ولا يزال الشعراء الأوائل في وجداننا ولا يزال المفكرون والجاحظ والرصافي وبلند الحيدري ومحمود البريكان ورشدي العامل وجميل بشير وغانم حداد وحميد رشيد وعبد المجيد الونداوي وحسين مردان وفائق حسن وخالد الجادر وجواد سليم، لاتزال كلماتهم وشعرهم وألحانهم الشجية ولوحات المدهشة وأصواتهم تدوي في الآفاق.. أما الذين ينهبون الوطن ويغتالون الثقافة فإن مزبلة التاريخ لا تزال تتسع للكثيرين ممن يغتالون الثقافة ويغتالون الوطن.
أنصحك أيها السيد رئيس الوزراء نصيحة لله وللتاريخ وبين يديك الآن سلطة، إن كنت شريفا وعراقيا حقاً أن ترسم لنفسك منهجاً علمياً عبر خبراء الوطن وأن تعيد النظر بالواقع المعاش والمتردي وتعيد بناء الوطن وبدون تردد ولا خوف. بهذا وحده تبقى حياً أو ميتاً وفي النهاية فالجميع يموت ولكن كثيراً من الأموات لا يزالون أحياء بيننا وكثيراً من الأحياء لا يزالون موتى بيننا. ولتكن الثقافة من أولويات إهتماماتك فهي الحارس الأمين للوطن الغالي والمستباح!
فلا تستبيحون الثقافة لأنها الشعلة التي لن تنطفئ وبشكل خاص في العراق!
ترى هل تسمع نداء الحقيقة!؟
كاتب وإعلامي عراقي مقيم في بريطانيا
[email protected]
التعليقات