دافعتُ عن حزب العمال الكُردستاني سابقا في أكثر من موقع. كان الدفاع من حسابات استحقاقية في قضايا العدل والإنصاف، مما لا يقف العقل السليم ضدها، ما لم يكن مدفوعا بعلة من العلل التي تبتغي لَي عنق العدل وغيره لصالح نزعة معينة ومرام معين. ولكنني لم اتعهد بالإستمرار في الدفاع عن الحزب المذكور إذا ما وقف في الجانب الخطأ، وإلا فإن الأمر لا يغدو كونه أكثر من تزمير وتهليل.
منذ اندلاع الثورة السورية المباركة، وانا اتابع أخبارها عن كثب في كل يوم. لكنني صُدمت أيما صدمة، حين أخبرني بعض الأخوة يعيشون الأن في سوريا، عن موقف حزب العمال الكُردستاني الغريب والشاذ حقا من الثورة السورية. فمعلوم أن الكُرد هم أول الشرائح التي بدأت بالإنتفاضة ضد نظام الشبيحة برئاسة بشار الأسد قبل أعوام. لكنني فضلت التريث، على أن أصدق الشهادات المتعددة، كي لا أقع في تصديق ما هو مشاع عن الحزب المذكور وموقفه من الثورة السورية بسرعة قد تثبت الأيام خلاف ذلك. لكنني تابعت وسألت مصادر عدة، حتى تبين الحق الى درجة التواتر الذي يستحيل اتفاقه على الكذب أن حزب العمال الكُردستاني يمارس دور الشبيح في هذه الثورة المباركة حقا. وما يؤسف له أن هذا الحزب منذ أعوام طويلة يتصدى لنضال مشرف كنا نسانده دوما ضد سياسات الأنظمة التركية المتعاقبة، التي كانت تشبه سياسات نظام بشار الأسد. لكن والحق يقال، منذ مجئ أردوغان تغيرت سياسة الحكومة التركية تجاه الشعب الكُردي، وكنا وما نزال ننتظر الخير من محاولات أردوغان وإن كانت هناك عقبات كبيرة بوجه حل حقيقي يرضي الكُرد. ولكن الغريب ومنذ أن بدأت السياسات التركية بقيادة إسلاميي تركيا بالتقدم على صعيد التفاهم مع التكوينات الكُردية في تركيا، ومع سلطة إقليم كُردستان، تزامنا مع تفاقم الثورة السورية، كثف حزب العمال الكُردستاني بشكل غريب من نشاطاته العسكرية داخل إقليم كُردستان، وفي شمال كُردستان، ضمن حدود الدولة التركية. وما كنا لنثير الإستغراب في هذا الإتجاه لولا وقوف الحزب المذكور مع نظام بشار، ونزول أعضائه بالهراوات والأسلحة على المتظاهرين الكُرد في المناطق الكُردية في سوريا. فما يؤسف له أن شبيحة تابعة لحزب العمال الكُردستاني وهي تضع صورة عبدالله أوجلان على صدورها، تمارس التشبيح العلني لقمع المتظاهرين الكُرد الثائرين ضد النظام السوري. وحين سئل أعضاء الحزب المذكور في سوريا من قبل شرائح الكُرد، عن سر هذا الموقف، كان جوابهم أن الحزب لا يريد إراقة دماء المدنيين الكُرد من قبل النظام السوري، الذي سيستهدفهم إن قاموا بالمظاهرات ضده!
والعجب العجاب هنا، أن سلطة إقليم كُردستان تتوسل منذ سنوات بالحزب المذكور ترك الأراضي التابعة للإقليم، أو على الأقل عدم شن الهجمات ضد تركيا إنطلاقاً منها. لكن إصرار حزب العمال الكُردستاني وعناده يتجاهلان على الدوام المناشدات المذكورة، التي تأتي في أعقاب الكوارث التي تنزل على المدنيين الكُرد في القرى الحدودية، بسبب قصف مدافع وطائرات ايران وتركيا لتلك المناطق.
ومنذ سنوات فإن الضحايا المستمرة تقع في الغالب بين القرويين العزل وليس مقاتلي حزب العمال. لكن ضحايا المدنيين الكُرد لم تلن من موقف الحزب إزاء استخدامه تلك الأراضي، لشن الهجمات ضد إيران وتركيا، والتي تعود بالوبال كما قلنا على المدنيين. فهل حقا يكترث حزب العمال الكُردستاني لدماء الأبرياء للكُرد السوريين، لذك يصدهم عن إقامة المظاهرات، أم أن تخبط سياسات هذا الحزب منذ إعتقال زعيمه هي التي تحرك مؤشرات حركته ونشاطه؟
من المفيد هنا الإشارة إلى أن حزب العمال الكُردستاني في تكوينه و سياسته مدين لزعيمه أوجلان المسجون في تركيا منذ عام 1999. يشاع أن أوجلان تقدم بشكوى لدى المحكمة التركية ضد محاميه وحزبه، بسبب تضليلهما له وعدم تزويده بالأخبار الصحيحة. لا تأكيدات على هذا الأمر، لكن القرائن الموجودة على الساحة تعطي صدقية لهذه الأنباء. فأوجلان لم يلتق بمحاميه منذ حوالي سنة. وهو إذ يثمن جهود النشطاء السياسيين الكُرد أمثال ليلى زانا وأحمد ترك وعثمان بايدمير، يحارب حزب العمال هذه الشخصيات في الخفاء، ومازال يرفض بشدة أي وجود عضوي، لأي تكوين غير خاضع لإرادته، نظرا لأنه الحزب الأب/القائد! وإذ تسيطر على حزب العمال عقليات عسكرية منذ اعتقال زعيمه، لا تفقه ما يدور على الساحة الدولية من سياسات تحتاج إلى وعي وثقافتين واسعتين، فإن غياب أوجلان (العقل الكبير) ترك فراغاً قاتلاً في جسد الحزب، عرّضه إلى إنكماش كبير في الساحات التي كان للحزب قواعد متينة وواسعة. ففي سوريا أصبح الكُرد على خصام معه، ومتذمرين من سياساته العنيفة والإقصائية والعدائية. وفي العراق عانى القروييون الكُرد من نشاطاته العسكرية ضد إيران وتركيا مما لم يعد في مقدورهم تحمل تبعات سياساته غير الآبه بمصالح المدنيين، وفي تركيا هناك تقارب كبير بين الشعب الكردي وممثليه في البرلمان عبر تقدم الحوار والتفاهم بينهم وبين حكومة أردوغان. وبما أن غالبية الشعب الكُردي من السنة، فإنه ظل تاريخيا جزءا من العالم السني. وفشل الشيعة عبر التاريخ ايجاد موطئ قدم لهم في كُردستان، بل وإن إنحياز العشائر والأمارات الكُردية إلى السلطان سليم العثماني كان السبب المباشر والأساسي في انتصار السنة على الشيعة في موقعة جالديران الشهيرة. ولذلك فإن الشيعة سواء في العراق، أوفي سوريا قاموا بتحريض الكُرد قوميّاً بتأليبهم على العرب، خلف ستار الدعاوي القومية العربية وفعلوا العكس مع العرب. وبما أن الشيعة تاريخيا منحازون إلى المذهبية لا القومية العربية، فإنهم استطاعوا وللأسف من ايجاد شروخ بين الكُرد والعرب السنة، لتتفاقم العداوة بينهم في الوقت الذي تمتع العلوييون والشيعة بتقويض الجانبين واحتوائهما وتضعيفهما كلّاً بواقعه وشرائطه.
استطاعت الثورة السورية سد هذه الشروخ وترميم العلاقة التاريخية بين السنة الكُرد والعرب في سوريا. لكن النظام الطائفي في سوريا المدعوم إعلامياً وعسكريا من قبل العالَم الشيعي في إيران، العراق ولبنان أراد ضمناً تخويف الشعب الكُردي بالسياسات الشوفينية والفاشية التي تحملها القومية العربية تجاهه، تذكيرا لهم بما نالوه من النظام القومي في العراق. وفي نفس الوقت ومنذ بداية الثورة، يخوّف هذا النظام الطائفي العرب من التطلعات الإنفصالية للكُرد ونزعاتهم المعادية للقومية العربية. هذه السياسة قائمة على قدم وساق منذ أربعين عاما! والهدف منها هو تضعيف الجانبين ليبقى المركز والقوة محصورين في يد الأقلية النصيرية/ الشيعية!
الشبيحة في سوريا اليوم مدفوعون بتعصب مذهبي تاريخي يمتد من الحشاشين النزاريين، والنصيريين والصفويين وإلى حيث قام الخميني بإحياء هذا المسار ووطده حافظ الأسد وحزب الله اللبناني، ورسخته الأحزاب الشيعية في العراق عبر ركوب الدبابات التي تحركت من واشنطن من داخل عصبيات الكنائس الإنجيلية التي لخصها جورج دبليو بوش بجملة واحدة quot;إنها الحرب الصليبية المقدسةquot; لتعريف الحرب على العراق!
لكن الشبيحة يقبضون أيضا، لقاء قتلهم السكان المدنيين والمتظاهرين السوريين. لكن الغريب ان حزب العمال الكُردستاني يقوم بتشبيح مجاني، يطلق عليه الكُرد ألقاباً مشينة جدا. فلا هذا الحزب شيعي على صعيد الهوية والتاريخ والإجتماع، ولا هو يقبض تلك الليرات السورية إزاء ضرب المتظاهرين كما يقوم بذلك شبيحة النظام، ومن ضمنهم الشبيحة المستوردة من عباءة المذهب في العراق وفي لبنان.
إنه فقط الجهل، التخبط وعدم قراءة الواقع السياسي قراءة صحيحة وبالتالي فإن هذه العلامة لا تشير إلّا إلى أن هذا الحزب يعاني اليوم إنحدارا كبيراً بعد صعود كبير في ظل زعيمه أوجلان بالأمس، ولا أدل على ذلك من قفز الحزب من مسار الثورة إلى الجورة، لينزل بجوره على رؤوس الكُرد المساكين الذين أهلكتهم جور الأنظمة الحاكمة في المنطقة منذ عقود طويلة. نرجو أن لا يستمر هذا الحزب في هذا المسار الخاطئ، فهل يصحح حزب العمال الكُردستاني مساره، أم يظل يزيّن إنحداره إلى الأنفاق المظلمة وراء عجائز عسكريين، لا يرون أبعد من بنادقهم في جبال قنديل!
التعليقات