نعم هو انقلاب يمكن تسميته quot;انقلاباً مدنياًquot; على السلطة العسكرية، ومن الناحية النظرية المحضة يعتبر قياماً لصاحب الحق باسترداد حقه، أي باسترداد السلطة من يد مجلس عسكري استولى عليها بعد تخلي مبارك عنها، ورغم أن هذا الانقلاب لم يكن بالتأكيد في إجراءاته مدنياً محضاً، إذ تم بالضرورة عبر تنسيق مع قواعد متعاطفة وكوادر إخوانية في قيادات الجيش الوسيطة، ما شكل عامل ردع لأي تحرك مضاد محتمل من القيادات العليا، إلا أن الموضوع ليس فيه أية فروسية، فمن تم الإطاحة بهم هم أصلاً شخصيات هشة، ولو لم يكونوا كذلك لما سلكوا النهج الذي رأيناه منهم طول عام ونصف، أُسُود على الثوار الأنقياء وشباب الأقباط، وحمائم وديعة أمام صقور وذئاب قندهار، هم غُمَّة وانزاحت حتى لو شغل مكانها ما هو أشد منها وطأة، فمصيبة واحدة أرحم من اثنتين معاً، وها هو دليل جديد على ما رددته مراراً، من أن مبارك شأنه شأن أي ديكتاتور لا يُصَعِّد للمناصب العليا غير الإمعات بتكوينهم الطبيعي، ولقد لعب السادات دور الإمعة حتى جلس مكان عبد الناصر، وكان مبارك إمعة طبيعي، ولم يكد يخلف لنا رجلاً بمعنى الكلمة في منصب قيادي.. جلب مبارك على نفسه نقمة أغلب الشعب المصري، أما المطاح بهم فقد جلبوا على أنفسهم العار واحتقار كل الشعب المصري باختلاف انتماءاته، ويا حبذا لو تم فحص ذمتهم المالية، لنعرف حجم ما امتصوه من دماء الشعب المصري.
نعم لا يمتلك محمد مرسي وصحبه مقومات ومؤهلات رجال الدولة، لكن الحقيقة أن هذه ليست معضلة هذا الجماعة وعصرها الجديد فقط، فمنذ حركة ضباط يوليو 1952 الذين انقلبوا على الدولة وليس فقط على نظام الحكم الملكي، وقاموا باستبعاد السياسيين المحترفين ورجال الدولة، وصارت القيادات العليا بجميع المؤسسات يتم اختيارها بناء على الولاء للإله الجالس على عرش مصر، ليتسيد المغامرون والانتهازيون والمهرجون، وتشكلت بيئة لا يسعى فيها الشباب للإتقان والاحتراف في تخصص ما لتحقيق الذات والنجاح، وقد صار النجاح مرتبطاً بالفهلوة والنفاق وإتقان حرفة الفساد.. هي إذن حالة جدب مزمنة في الرجال وفي الكفاءات عمت جميع الفئات والمكونات، ولم يستثن منها من يرتدون ثياب المعارضة، كما لم ينج منها الحكام إلا في النذر اليسير، وتحولت مصر إلى مركز طرد لأغلب quot;الرجال المحترمينquot;، وربما هذا العامل له دور جوهري في الصعود القوي للتيارات الدينية، فحالة الضعف والخواء هي الفرصة الذهبية للفيروسات لتتمكن من أي جسد.
في خطابه الأخير أمام مشايخ الأزهر تحدث محمد مرسي كداعية ديني وليس كرئيس جمهورية، وكانت مفردات وإحالات خطابه كلها دينية، وجه أغلبها للأمة الإسلامية، كما لو كان قد تقمص شخصية خليفة المسلمين المنتظر، وهذا طيبعي بالنسبة لرجل كرس عمره كله لغاية وفكر ديني، ويرى نفسه كداعية للدين وفق أيديولوجية محددة تماماً دخل في سبيلها السجون، وقد أوضح الرجل هذا بالنص في خطابه، حين تحدث عن أن رسالته إيصال كلمة الله للناس، مركزاً على إيصالها بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن الواضح أنه يتجاهل وربما يجهل أن أمامه الآن بصفته الجديدة كرئيس للجمهورية مهاماً أخرى ثقيلة، وأن مهمة إيصال كلمة الله للناس ينبغي عليه الآن التخلي عنها لرجال آخرين متفرغين لها، علاوة بالطبع على أن الدول ومؤسساتها لا ينبغي أن تعمل بالدعوة الدينية، وإنما فقط الأفراد والمؤسسات الدينية، كما نلحظ أيضاً حرصاً منه على إرسال رسالة تطمين للخارج قبل الداخل، تحمل التزامه بالسلام والعلاقات الودية مع الجميع، رغم أن المتابع الدقيق لكلماته وما خلفها من معان لم تكن مستترة تماماً يمكن أن يتولد لديه انطباعاً كذلك الذي أشار إليه quot;أبو الطيب المتنبيquot; حين قال:
quot;إذا رأيت نيوب الليث بارزة * فلا تظن أن الليث يبتسمquot;!!
بخلاف هذا فإن بعض مقاطع خطابه بدت منمقة ولا بأس بها نسبياً، حتى وإن كانت تحمل في ذات الوقت إمكانيات لمحمولات بالغة الخطورة، والحقيقة أن كلمات أهل السلطة ما كانت يوماً معياراً صالحاً للدلالة على خطواتهم العملية المقبلة.. هو المشوار الذي اختار الشعب المصري السير فيه، وله وحده الحكم على نتائج اختياره، وإن كان سيرضى بتجرع هذه الكأس لآخرها، أم سيتوقف ليراجع نفسه في منتصف الطريق، فكل ما جرى وسيجري يتم وفق أسس الديموقراطية بتطبيقها المصري، ومهما كانت نظرتنا لمدى تجسيد هذه التطبيقات لجوهر الديموقراطية ومفهومها الصحيح، فإن هذا هو الموجود بمصر، وهذه هي حقائق وطبيعة ظروفها وشعبها، وعلى من يريد الخروج من هذه الحفرة أن يلجأ لذات أسلوب من جذبونا للوقوع فيها، وهو استخدام آليات الديموقراطية ذاتها للتخلص من هؤلاء. . مصر الآن وجهاً لوجه أمام مصيرها، هي رحلة في طريق تفترشه صخور الماضي وعقارب الحاضر وثعابينه، ولا نستطيع التنبؤ بحجم الخسائر التي لا نتوقع إلا أن تكون جسيمة.
يحاول بعض الظرفاء من دعاة الدولة المدنية التهرب من المأزق الحالي بالتصايح اعتراضاً على تركيز كل السلطات في يد جهة واحدة هي رئاسة الجمهورية، ويبدو أنهم يحتاجون لمن يلفت انتباه حضراتهم إلى أن مجلس الشعب كان وسيكون في خدمة ذات الجهة، وأن القضاء باعتباره السلطة الثالثة بداخله تيار لا يقل قوة يميل لذات الاتجاه، وأن هذا الإجماع الوطني النسبي لو تم لصالح اتجاه مستنير لكان الأمر رائعاً، فالمشكلة الحقيقية التي ينشدون الهرب من المواجهة الصريحة معها ليست ميل كفة الميزان لصالح جهة معينة، وإنما الكارثة في طبيعة هذا الاتجاه المسيطر وما يمكن أن يقودنا إليه.. يا أصدقائي اللطفاء الظرفاء: ليتكم تكفُّون عن المواقف الحنجورية المثيرة للسخرية والشفقة، وتثابروا على العمل وسط الجماهير، علنا نستطيع أن ننحت في قلوبها مكاناً لنا، وإلا فهو الهلاك والخراب الشامل ولا محيص!!
لا يبدو على رموز النخبة المصرية أنهم قادرون على التعلم من تجاربهم، حتى تلك التي مازالت الأرض ساخنة جراء وقع الأحداث عليها، يسعون لذات التحالفات الهشة الكرتونية، بين من يختلفون في كل شيء إلا فيما يرفضون، والذي كان قبل هوجة 25 يناير 2011 نظام مبارك، والذي هو الآن الدولة الدينية الإخوانجية، فمع quot;مولانا سيدي محمد البرادعيquot; مثلاً ليبراليون حقيقيون وليبراليون أدعياء وعروبجية أشاوس وماركسيون أسياخ، ومتأسلمون مندسون لأغراض عرفنا نوعيتها متأخراً جداً، ومعهم لفيف من الأونطجية والباحثين عن أي موقع لقدم يجدون فيه ذواتهم التائهة التي لا تجد من يشتريها.. مازلنا أو بالأصح مازال هؤلاء عند ذات النقطة، أي أننا نصر على البدء من ذات المنطلقات التي أدت لانكفائنا على وجوهنا شر انكفاء، وتغلب علينا أو سحقنا أصحاب المبادئ الموحدة الواضحة، أقصد أصحاب الفكر الديني والدولة الدينية.
يتحدث هؤلاء ستراً لخوائهم وضمور ملكة الإبداع والجرأة في الطرح لديهم عما يسمونه quot;التيار الثالثquot;.
أنا شخصياً لا أعرف أو أعترف بـ quot;تيار ثالثquot; أو رابع، أعرف فقط أن إنقاذ مصر وشعبها يتوقف على تشكل تيار وحزب شرعي منتظم ومنضبط ليبرالي علماني صريح وقوي، ينتشل البلاد والعباد من فكر ومناهج حياة العصور الوسطي، ويدفع بها للقرن الحادي والعشرين. . لن نبارح قاع العصر ومزبلة التاريخ إلا إذا أدرك الإنسان المصري أنه ينبغي أن يعبد كل إنسان ربه كما يشاء، وأن صالحه وصالح أولاده وأحفاده وبلاده في الفصل بين الدين والدولة، والفصل بين الوصايا الدينية التي يحتفظ بها الإنسان ويحفظها في شئوونه الشخصية، وبين العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تلك التي لا ينبغي أن يحكمها ويحددها غير العلم، بما يحقق المصالح المشتركة لجميع الأطراف.. أما إذا كانت العلمانية لا تناسبنا ولا تتفق مع هويتنا فلا بأس، لكننا لن نكون يوماً ضمن الأمم المتقدمة المزدهرة بما أنتجته العلمانية من حضارة، ولنهنأ بالحياة (أو الموت) في أوحال الجهالة والتخلف إلى أبد الآبدين.
أخيراً أرى أنه يتوجب علي إبلاغ رسالة لأبنائي وإخواني دعاة الدولة المدنية الذين يرغبون في الخروج يوم 24 أغسطس ضد جماعة الإخوان المسلمين، أنا الذي لم أكن يوماً من دعاة اليأس أو الخنوع أو الإحباط، أود أن يراجعوا موقفهم الآن بعد التطورات الأخيرة، فالصحيح الآن هو الشروع في تأسيس جبهة علمانية قوية تعمل وسط الناس، تكون بمثابة معارضة وطنية شريفة، تؤيد الخطوات التي تصب في صالح تطور مصر وحداثتها، وتعارض بالطرق الشرعية ما يخالف ذلك.. معارضة وسط الناس وبالناس، غير تلك المعارضات الحنجورية منقطعة الصلة بالشارع وبالقضايا الحياتية لشعبنا التي عرفناها في العهود الماضية على يد المتأسلمين والعروبجية وأهل اليسار، فالفوضى واللجوء للفعاليات العشوائية والعنف لن يخدم أبداً قضية الحرية والمدنية، بل ستكون فرصة ذهبية تهتبلها قوى الظلام لسحقها. . الشجاعة والإخلاص للمبادئ لا يعني أبداً الحماقة أو التهور.. كما يلزمنا ونحن نشرع في تدارس ماذا يمكن أن نفعل، أن نجد إجابة لتساؤل عن quot;متى سيبدأ الإرهابيون المفرج عنهم والمستقدمين من الخارج ممارسة جهادهم المقدس في سائر المدن والقرى المصرية، وليس فقط في سيناء؟quot;، فإجابة هذا السؤال والتي لابد وأن ننتظر ما ستأتي به الأيام لنعرفها، هي التي ستحدد إلى أي درجة سقطت مصر في قبضة هؤلاء المنتسبين للبشر بلا مبرر، وأي طريق ستسلك.
مصر لن تموت.. مصر أقوى وأكبر من أن تموت.
الولايات المتحدة- نيوجرسي
[email protected]
التعليقات