في حين تحوي الصفوف العلمانية على مؤمنين و متدينين وسطيين، لا تزال العلاقة بين الملتزمين دينيا وبين اللادينيين من العلمانيين، علاقة يشوبها التوتر والتعارض حد العداء والتناقض، يتناسى اللاديني أن الدين احد أشكال خلع المعنى على العالم، هو بالنسبة لصاحبه أساس وجودي ورافعة أخلاقية، كما يغيب عن ذوي العقل الديني أن الاديان كافة والإسلام على وجه الخصوص قد شدد على نبذ الاكراه في موضوع الايمان و العلاقة مع الشرط الديني، إذ لا إكراه في الدين.

التوجس والتوتر المتبادل الذي يغشى العلاقة بين بعض العلمانيين وبين الملتصقين بالعامل الديني في تفاعلهم مع ذواتهم ومع العالم، يشكل عقبة كأداء تعمق القطيعة وتنسف كل الجسور الممكنة للتواصل بين الطرفين، لذلك تبدو العلاقة دائما في تأزم والتهاب مزمن، وعلى ذلك يظل التفاعل الجدلي المثمر بين هذين الطرفين المتعارضين فكريا وقيمياً و معرفياً معطلاً وغير ممكناً، وفي أحسن الاحوال منقوصاً، وهو ما يبقي الحال في وضع مراوح لا خلاص منه، وكأن الامور محكومة في هذه الجزئية الى إغلاق وانعدام جدوى. على أنه يمكن، من وجهة نظر هذه السطور، إيجاد مدخل معقول تنفذ منه الحلول الممكنة لهذه العلاقة المتأزمة، مدخل يجنب الطرفين القطيعة الابستمولوجية الحاصلة بينهما. يتبدى هذا المدخل، ووفقا لما يسمح بتشكله النظام المعرفي المختلف الذي ينتمي اليه كل منهما، في إيجاد منطقة خطابية / مواقفية مشتركة تجمعهما، وتصلح كقاعدة تبنى عليها العلاقة بينهما. يمكن أن تتشكل هذه المنطقة بأن يعتمد كل طرف تغييرا في قواعد خطابه الذي يوجهه للآخر، ليتخلى الذين ينتمون معرفيا الى مرجعية العقل اللاديني عن مواقع رد الفعل وعن إصرارهم في تجسيد حالة العداء التناقضي النافي للآخر وعن حالة الفوبيا التي تصيبهم حين يواجهون فاعلين اجتماعيين متشددين دينيا، ويقبل الملتزمون بالموقف الديني من الوجود، العمل وفقا لقاعدة ادع الى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن. بالطبع من أبجديات هذا التفاعل احترام اللادينيين للرموز الدينية ولعقائد المؤمنين دينيا، وإقرارهم بأن التصور الديني للوجود هو أحد التصورات الهامة أن لم يكن الأهم، الذي لعب دورا في تأسيس القيم والأخلاق الانسانية الحديثة و السائدة، وتسليم المؤمنين والملتزمين دينيا بحق الانسان في أن يكون حرا في الإيمان من عدمه، وان يقبل كلا الطرفين المواجهة السلمية بينهما، حيث يعمل كل منهما على التمدد الاجتماعي كيفما يشاء ووفقا لمعايير الحرية و القانون و حسب.

سورياً، قد يحيل الحديث عن العلاقة بين الفاعل الاجتماعي ذو المرجعية الدينية والآخر اللاديني،بالنظر الى الوضع السوري الملتهب الآن، إلى تعذر بناء المدخل المقترح أعلاه، وقد يبدو قبول كلا الطرفين للعلاقة التواصلية المقترحة بينهما مجاف لإيقاع ومسار التفاعلات الاجتماعية الجارية اليوم في سورية، سيما والاستقطاب بين طرفي تلك العلاقة المقترحة يزداد حدة، إلا أن قراءة الاحداث من منظور واسع وقياس تاريخي ترجح بأن جل العلامات التي يخلفها الوضع الآني لذلك البلد على مستقبله، يفيد بحدوث العكس تماما، أي بخلق أرضيات وضوابط مشتركة ينشد اليها تفاعل مختلف الخطابات الفكرية والسياسة المتعارضة وليس فقط المتدينين المؤمنين واللادينيين من السوريين. فالثورة السورية،بما هي ثورة وانعطاف تاريخي حاد وهام و صعب، تشكل الفرصة السانحة لإحداث تغيير عميق في نوع و شكل تعاطي السوريين مع أنفسهم و تفاعلهم مع محيطهم وعالمهم، ولا يتعارض ذلك مع ما تخلفه ظروف تلك الثورة وسيرورتها منذ اشتعالها،وما يسببه مقاومة أعدائها لها من جروح عميقة واختلالات حادة تطال مجمل الوجود السوري ذاته، فتلك هي أعراض كل تغيير عميق وحقيقي وجذري، ولا يمكن لمثل هذا التغيير الذي يحدث الان في سورية إلا أن يحقق في المآل، القطع مع الاستبداد ويستجيب لحاجة السوريين الى إدارة خلافاتهم وقبولهم لاختلافاتهم بل تحويلها إلى دينامية اثمار وتقدم لاجتماعهم السياسي ولوجودهم بكافة ابعاده و مستوياته.

كاتب وناشط سوري