مقدما وقبل أن ألج في صلب فكرة المقال علي أن أقول إن زعماء القاعدة وما شابهها من منظمات ظلامية متخلفة يحتاجون جدا إلى فيلم من نوع (براءة المسلمين)، ولو لم يكن موجودا لأوجدوه. فهو دجاجة تبيض لهم ذهبا من نوع فريد.
شخصيا، أتوقع أن يكون كثيرون من الذين هبوا غاضبين على فيلم ( براءة المسلمين)، وخاصة أؤلئك الذين كانوا أكثر هيجانا وعصبية وعنجهية وأشد اندفاعا في الحرق والتكسير والضرب والصراخ العالي على أبواب سفارات أمريكا في أغلب الدول الإسلامية لم يشاهدوا الفيلم البذيء الهابط إلى أقصى درجات الضحالة والارتجال والصبيانية في ميدان العمل السينمائي.
ولولا حملات التهييج المنظمة لما أحس أحد به ولا بأصحابه المغمورين. تماما كما فعل كثيرون، ومنهم الخميني وأتباعه من المتهورين والسريعين في إصدار الأحكام الغاصبة المتعجلة بإهدار الدم ومصادرة المال والحرمان من الحقوق والتفريق بين الأزواج، حين أصدر سلمان رشدي كتابه (آيات شيطانية).
تخيلوا لو لم يحكم الخميني بإهدار دم سلمان رشدي، ولو لم يضع تلك الجائزة المالية المغرية لقتله هل كان لسلمان رشدي كل هذه الشهرة والانتشار والاحترام في أغلب منتديات الفكر والثقافة العالمية؟
إبراهيم الزبيدي |
ومع ذلك فحين التقيت بكثيرين من زملائنا الكتاب العرب والمسلمين الذين (كــَـفّروا) سلمان رشدي وشتموه وشتموا معه العلمانية التي تقوم على أساس الحرية الفكرية والعقائدية، واعتبروها رذيلة وانحلالا أخلاقيا وانفلاتا اجتماعيا، وبالغوا في اتهام الحكومات العلمانية الغربية بالحقد الديني والرغبة في تهديم الدين الإسلامي وانتهاك حرماته، ولم يقروا بأي فضل من أفضال العلمانة التي أنتجت كتابا ومفكرين وفلاسفة عظماء خدموا البشرية بحق، وأضاؤا لها كثيرا من فساد العقل وانحراف الضمير، تأكد لي أن أكثرهم لم يقرأ آيات شيطانية، نهائيا، بل سمع عنه أو قرأ حوله.
وفي تاريخنا العربي والاسلامي، معا، والأسفُ شديدٌ جدا على ما نحن فيه من عصبية وغوغائية واندفاعات عاطفية همجية غير مهذبة وغير متحضرة، يسقط كل يوم وكل ساعة أبرياء كثيرون وتسيل دماء وتنتهك أعراض وتصادر حقوق وحريات بسبب دسيسة أو نميمة أو افتراء.
وعودٌ على الفيلم الشيطاني الأحمق (براءة المسلمين). أتذكر، وكنت مقيما في منطقة (الدكوانه) ببيروت أيام الاجتياح الإسرائيلي الكتائبي المريع لمخيم تل الزعتر، ما رواه لي أحد شباب الكتائب اللبنانية كيف كان يربط المقاتل الفلسطيني من قدميه ويعلقه بشجرة ويحرق تحته أكواما من الحطب حتى تصل النار إلى رأسه فينفجر بالشتم والولولة. وكان هذا (البطل الكتائبي الشجاع) يضحك طويلا وعاليا وهو يسرد علي شتائم الضحية لـمسيح القاتل ومريمه وكنيسته، فيرد عليه الآخر بشتائم أقذع لنبي المقتول وقرآنه ومقساته.
ومن هذه العينة من فرسان التقاتل بشتم الأنبياء وتسفيه المعتقدات نماذج كثيرة مقززة نصادفها في العالم، كل يوم، خصوصا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. وأشهرها وأهمها تجليات ذلك القس القبطي الذي ظل يظهر على الفضائيات العالمية ويمارس شهوة التقريع والتجريح والشتم، بالقلم العريض وباللسان الفصيح وتحت الحزام، للدين الإسلامي ونبيه وكتابه وتاريخه، سنوات عديدة، إلى أن تعب هو نفسه وانزوى وطردته الفضائيات التي كان يصول فيها ويجول وها هو اليوم منسي ومرمي في سلة المهملات، لا أحد يتذكره ولا أحد يسمع باسمه ولا برسمه.
ومن الواجب إثباته هنا أنه كان ينطلق بشتائمه للنبي وآله وزوجاته وصحبه، علنا وعلى شاشة الفضائية القبطية الأمريكية من لوس أنجلس بكاليفورنيا، كل مساء، وعلى امتداد سنوات، لكن المسلمين الأمريكان لم يتخذوا من شتائمه ذريعة ليشنوا حربا دينية صاخبة كما يحدث اليوم في أغلب العواصم العربية والإسلامية، بدفع وتوجيه وتحريك وتمويل مباشر من بعض الحكام العرب والمسلمين، ومن قادة المليشيات الطائفية والعنصرية الظلامية المسيطرة على الشارعين العربي والإسلامي سيطرة مطلقة ليس في إمكان أحد إنكارها ولا التقليل من خطرها الدائم على حاضر الشعوب ومستقبلها المظلم القادم المخيف.
إن لنا إخوة في العروبة وفي الإسلام لا يقلون بذاءة عن ذلك القس القبطي، ولا عن منتج فيلم (براءة المسلمين) ولا عن مخرجه الإسرائيلي الأمريكي.
لدينا أيضا فتاوى وتعليقات وكتابات وتصريحات وأحكام تعلن على شاشات التلفزيون، أو تكتب وتصدر في كتب، أو تنشر في مجلات وصحف ونشرات، كل يوم، لا تقل عما نجده، في الطرف المقابل، من الدمامة وقلة الأدب وفساد الخلق وبذاءة الكلمات ضد أديان أخرى وبحق أنبيائها ورجالها ومقدساتها.
وفيلم (براءة المسلين) ليس سوى قطرة صغيرة وعابرة جدا في بحر الضلال والظلم والتعدي العربي الإسلامي على الآخرين.
إن في كل مجتمع وكال طائفة وكل دين زعانف شريرة ونفوسا مريضة وقلوبا فاسدة مليئة بالحقد والبغضاء والكراهية خربتها المدارس الفاسدة ورجال الدين الفاسدون وقادة الفكر المظللـِّون المظللـَّون.
بالمقابل لا يمكن أن نتجاهل السيل العارم من الاحتجاج والرفض والاشمئزاز الذي أظهره بشدة وحزم وشهامة وشجاعة رجال دين وكتاب ومفكرون وإعلاميون وساسة مسيحيون، عرب وأجانب، لذلك الفيلم البذيء، ربما أكثر من كثيرين من المسلمين.
والحقيقة المحزنة أن السفير الأمريكي في ليبيا ليس وحده ضحية ذلك الفيلم الفقاعة، بل الضحية الأهم والأكثر فداحة في الخسارة هي روح التسامح الديني والفكري والاجتماعي في أمتينا العربية والإسلامية التي قتلها المضللون والمهرجون وأدعياء الغيرة على الدين، وما هم بمخلصين ولا صادقين.
إن ماحدث في بنغازي، وفي باقي المدن العربية والإسلامية، شيء مخيف. إنه يعني تجذر الغوغائية في شعوبنا، وتأصل الإرهاب الفكري والعقائدي في شبابنا، بدل التقدم خطوات على طريق التحضر والعقلانية والموضوعية في إدارة الأزمات. وهو يعني أيضا وبنفس الدرجة، أن هيمنة الفكر الظلامي حقيقية على جماهيرنا، وأن الأمل ضعيف في خروجنا من قواقع الماضي الخانقة إلى شواطيء الحضارة الإنسانية المتجددة.
وقبل أن أخرج من هذه المقالة المزعجة أقول إن من يعيش في أمريكا طويلا وعميقا يعرف أن من يريد أن ينتج فيلما أو ينشر كتابا أو ينشيء إذاعة أو محطة تلفزيون لا يحتاج إلى أكثر من ترخيص بشركة تجارية يحصل عليها هاتفيا وبدقائق، ليفعل بعد ذلك ما يشاء، دون رقابة ولا حساب ولا كتاب إلا حين يمس كرامة غيره أو يعتدي على خصوصية أحد. وبالتالي فالحكومة الأمريكية والشعب الأمريكي براء تماما ونهائيا من كل ما أنتج وما ينتج من أفلام وما ينشر من كتابات وما يذاع في إذاعات وفضائيات. أمريكا، يا إخوتنا، بلد الحرية المطلقة في الرأي والفكر والعقيدة، بالتمام والكمال. ولكن من الحرية ما قتل، في بعض الأحايين.
وأي عربي أو مسلم شهم وغيور يريد أن يأتي إلى أمريكا وينتج فيلما أو عدة أفلام، عن أي شأن من الشؤون، يستطيع أن يتفضل ويفعل ما يريد، ولن يجد أحدا يسأله ماذا تفعل وماذا تريد. صدقوا أو لا تصدقوا. والمية تكذب الغطاس.
التعليقات