استهلكت الحرب ضد الاستعمار من العرب نصف قرن في المقاومة، ونصفا اخر في الحكم. لم تنه الانظمة الجمهورية العربية حربها، بقي شماعتها.
ينقل محمد حسنين هيكل حوارا دار بين جمال عبد الناصر ونوري السعيد في القاهرة عام 1954، تجادل الاثنان حول تحديد العدو وفي مواجهة من يقف العرب، السعيد رأى الخطر في الشيوعية القادمة من السوفيت، واصر عبد الناصر على انه قادم من الاستعمار الغربي، انتصر ناصر، العدو هو الاستعمار، امتدت المعركة.
السياسات الخارجية الاصطفافات الاقليمية والدولية حددت الدور الاهم في شكل السلوك الداخلي للأنظمة. كان العهد الملكي اخف وطأة نتيجة عدم وجود ايدلوجيا سياسية صريحة، وبمجيء الجمهوريات تطور الامر ليصبح مرضا، لأنه بات جزء من ايديولوجيا النظام.
تاريخنا الحديث مليء بالأعداء الغربيين والشرقيين، وهم لا يوفرون فرصة للتدخل والتحكم. غير ان استخدام هذا العدو لتحديد سياسة داخلية كان هو الشماعة التي علقت عليها كل الانتهاكات والاخطاء والجرائم والتأجيلات، ومن داخلها ايضا ولدت سياسات اخرى بديلة. وحتى عندما تحصل تغييرات في توجهات السلطة وعلاقاتها الخارجية، نجد ان الشعوب تظل عالقة في نقطة اتهام الاخر بكل الانهيارات الداخلية..
افترض الصدق في الكثير من التصورات المصاحبة لولادة احزاب عصر العسكر ومقاومة الاستعمار، ولكن السلطة تستهلك الصدق المفترض، تنتهكه، تحوله الى مجرد وسيلة دعاية لأهداف سلطوية وليس تحررية حقيقية.
لم تبن الانظمة السابقة مجتمعا مؤهلا لمواجهة العدو، وهذا ما سمح بصناعة مزيد من quot;المتربصينquot; فضلا عن الاعداء التقليديين. التلاعب بالفرد والشرائح في البلدان العربية سهل جدا، يمكن للعدو الذي يقاتلونه ان يوظفهم بسهولة في اتجاه لا يريدونه هم اصلا.. كما ان الشعور بالاضطهاد او التمييز داخل اي وطن سيجعل العدو صديقا او على الاقل يصنع منه محايدا. وهو ما يحصل في الكثير من البلدان العربية.
لو كان بإمكان احد ان يمنع الانهيارات الداخلية بشماعة اعداء الخارج لنجحت الدكتاتورية السوفيتية بذلك، وهي شيدت احدى اعظم دولتين في القرن العشرين، ولكن لأن تلك العظمة كانت على الحساب الناس فإنها انزاحت وتهاوت.
وكان يمكن ان يكون انهيار الانظمة نهاية عصر من الاكاذيب والادعاءات quot;وكلمات الحق المراد منها باطلquot;، وهو ما لم يتحقق. ومجريات تظاهرات رفض quot;الاساءة للنبيquot; تمثل جزء من مسلسل اجترار اللحظة السابقة بصيغة جديدة: quot;عدوكم في الخارج، وجهوا سهام اصواتكم ضده حصريا، فهو الشيطان الوحيد الذي يتسبب بآلامكمquot;.
خلفاء quot;الربيعquot; المفترض لم يتخلصوا من هذه الثقافة السياسية التي خلفتها الانظمة. ربما ستتغير الاتجاهات، او الخلفيات التي تحدد العدو وتصنع منه تبريرا لسياسات ما، غير ان المنهج يظل واحدا. في السابق خلق انطلاقا من خلفيات quot;وطنيةquot; وقومية، اليوم سيكون الدين معيارا لبناء عدو في ذهن المجتمع.

فهل ستنزلق الشعوب مجددا؟
مؤكد ان المرحلة الحالية تختلف عن تلك السابقة، مصدر الشعور بالمهانة داخلي وليس خارجيا، والفقر والقمع تخلقه سياسات محلية، حتى الهزائم الكبرى جاءت نتيجة تقهقر المجتمع امام الفقر والجهل والجور.
ومن الصعب الحديث عن وعي متقدم للمجتمعات يدرك ضرورة النمو والرفاه كشرط لمواجهة العدو الخارجي. رفع منسوب الشعور المسيس دينيا سيؤسس اندفاعة quot;امميةquot; لدى الافراد، ويسهل جدا ان يجد المرء في الغرب ما يمكن ان يستفز المسلمين، وهذا سيكون احد قواعد استعادة السياسة الخارجية كمنهج يحدد شكل السياسة الداخلية.
ولكن يبدو ايضا الى جانب ذلك ان نسبة لا يستهان بها من الشارع يتحرك بوعي او بطريقة غريزية في طريق المطالبة بالحق الداخلي، دون ان تعير اهتماما يذكر للعدو الخارجي.
العالم ليس خيّرا للدرجة التي يترك هذه الشعوب العيش بسلام، فهنا النفط وهنا مصالح كبرى، الا ان المواجهة لن تكون بمجتمع منخور وفاقد للحقوق، ولا بالشعارات التي رفعتها الانظمة السابقة، المواجهة الحقيقية هي ببناء شعب قادر على المواجهة وليس مجرد شعوب جائعة لا تقوى سوى على القيام بعمليات انتحارية.