كالكثيرين توقعت ان سقوط رمز الدكتاتورية العراقية في ساحة الفردوس نهاية لمعاناة العراقيين وتحقق الامل بالوطن الفردوس. في الطريق الطويلة بين دمشق وبغداد منهيا مهجرا شاميا، حلمت ببغداد؛ كيف ستكون بلا دكتاتورية.
التاريخ هو السادس والعشرون من نيسان 2003 اي بعد 17 يوما على اعلان سقوط نظام البعث، شوارع بغداد فارغة الا من بعض المركبات، تراب العاصمة الكثيف يغطي حتى خضرة الاشجار، الطابع العام على لون الجدران هو الصحراوي. مدينة مستفزة تخفي وراءها تعقيدات وتشابكات جمة، رغم سكونها وهدوء شوارعها بفعل الترقب للمتغير السياسي الجلل.
مثل هذا الانطباع يفترض ان يشكل سببا لمراجعة الآمال والاحلام.. ذلك لم يحصل، فلم نفكر كثيرا آنذاك ان صدام حسين هو صورة لمشكلات العراق وليس كلها، هو جزء من مشاكل متجاورة ومتجانسة. بعث العراق شغل الجميع عن التفكير بأن وراءه اكثر من قصة، واكثر من مشكلة ومعاناة.
بعد يومين من الاقامة في بغداد، ذهبت الى البصرة حيث الموطن. المدينة من مدخل طريق الصحراء تظهر فجأة بدون مقدمات، ما ان يعبر الداخل اليها النهر الفرعي الذي صنعه النظام السابق لمآرب الحرب تقفز اليه المدينة مرة واحدة. مدخل مدينة النفط والنخيل وميناء العراق الوحيد يرزح تحت الصفيح، الفقر والالم لا يحتاج الى أي عناية كي يعرف.
المفارقة ان ابناء بيوت الصفيح يرون بوضوح السنة النار التي يطلقها النفط وتحيط مدينة شط العرب من ثلاث جهات. قد ترقى بعض احياء البصرة على هذا الوضع المزري، لكنها بصفة عامة تمثل بقايا مدينة. مدينة حلم ابناؤها قبل ثلاثة عقود بان تصبح فينيسا الشرق الاوسط.
الارهاق النفسي quot;المزمنquot; بفعل الحصار وسياسات الظلم المتراكمة في عموم العراق، والعقل المعقد المتحكم بنسق التفكير الجمعي والناتج عن عقود من الكراهية قبل وبعد البعث، والخوف النابع من البطش والمؤدي الى اساليب اللف والدوران... اضافة الى وضع المدن المتخلفة بفعل الاهمال والتريف، والمعارضة السابقة التي تشابه جلادها، كلها يفترض ان تدفعنا للتأني كثيرا في المد بأحلامنا وامالنا، كي نعرف اين نقف.
الان وبعد تسع سنوات من التغيير تراجعت الطموحات كثيرا. لحظة التغيير رفعت الطموحات، الآمال، الاحلام، وبفعل الزمن اختصر كل شيء في اولويات محدودة. السلامة هي المتبقي من متطلبات اكثر العراقيين اليوم، والنخبة عادت لتختصر تطلعاتها بأن لا يصبح العراق مجددا موطنا للدكتاتورية، ورغبة بالخلاص من الانقسام الطائفي... هذا ما تبقى. اما الاهداف الكبيرة فلم تكن سوى مجرد حلم جميل، رسم شعورا لمرحلة ما.
تلك الاحلام المنقشعة على واقع اكثر تعقيدا انتقلت الى العالم العربي بعد ربيعه المفترض، بعد ان بدأ العراقيون يصحون من الحلم الجميل على كابوس الواقع. الخلاص من الدكتاتورية ليس نهاية المشوار، اكثر ما يمكن ان يشكله اسقاط الدكتاتور هو ان يكون متنفسا للتفكير في الطريق الطويلة نحو الديمقراطية.
الواقع يقول ان السلطة جزء من عملية التغيير وليس كلها، المشكلة الرئيسة تكمن في المجتمع، ذهنيته، توجهاته، خطابه، اهدافه واماله. وان السلطة لا يمكن ان تكون الا صدى لهذا المجتمع، ان كان خيرا فهي خيرة، والعكس صحيح.
اكيد ان الانظمة الدكتاتورية والفاسدة والفوضوية والصراع غير الديمقراطي على السلطة سبب في مزيد من الخراب، خراب المجتمع. لكن هل يمكن لمجتمع مدرك، مستقيم، معتدل، باحث عن الحق في الحرية ان يخضع لمثل تلك السلطة؟.
نظام البعث وبقية الانظمة الدكتاتورية او الفاسدة في العالم الثالث هي نتيجة طبيعية لانحرافات المجتمعات، فضلا عن النخب الفاعلة. ولهذا فان التغيير لن يكتمل، بل ولن يتحقق، اذا لم يضرب في عمق وعي الجماعة. واهم نقطة هي ضرورة معرفة ان المجتمع ليس مجرد ضحية، المجتمع ضحية مكن الجلاد من نفسه.
الاعتقاد بان سقوط النظام في العراق يعني خلاص المعاناة هو مكمن الخلل، لأنه يكشف عن حجم الجهل بالذات والامراض المحيطة بها. لذلك كل المعالجات بقيت على الهامش لم تمس الا بعض الزوايا.
الوضع العراقي اليوم يؤشر الى ان الانتكاسة متواصلة، رغم بعض النجاحات في دوائر محدودة. يمضي الخراب قدما بفعل الارتدادات في الوضع السياسي العراقي بين خياري الفوضى السياسية وظهور الزعامات المستبدة بعد ان افرغت صناديق الاقتراع من محتواها. وهي ارتدادات يساعد عليها مجتمع يتخبط.
وهذا يتيح دائما ان يتحول الضحية الى جلاد.. وندخل مرة اخرى في لعبة الخلاص، دون ان يدرك الجميع ان المظلومية لا تعطي احدا الحق بظلم الاخرين. هذا الدرس الذي لم نتعلمه بعد.
لقد كان حلمنا اكبر مما نستطيع ان نحافظ عليه ونصنعه واقعا.