تولد قمة بغداد الثالثة بعسر. شرائح شعبية واسعة لا ترحب بضيوفها. القادمون او بعضهم على الاقل، متهمون باضرار العراق والوقوف وراء العنف الحالي ومساعدة الدكتاتور السابق والمساهمة في حصار التسعينات. في المقابل الضيوف يتعاملون مع العراق باعتباره تجربة امريكية ايرانية يجب تقويضها.
اطراف اقليمية ومحلية تعارض لأنها تجد في القمة مكسبا لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ما يعزز وضعه داخليا واقليميا.
الاجراءات الامنية وحجم الميزانية المرصودة للقمة ادت كذلك الى جبهة من الاراء الشعبية المعارضة.
انها قمة المفارقات، اكثر اطرافها تتعامل معها على مضض. لكن هل يكفي امتعاض الضيوف والشعب quot;المضيفquot; مبررا لرفض القمة؟
النخبة السياسية والاعلامية العربية تتحدث باستمرار عن العراق الذي خرج من الحاضنة العربية، ويطالب بعضهم بالعمل على ارجاعه. لكن لا يوجد لدى أي من هذه النخبة فكرة عن الطريق السليمة لبلوغ هذا الهدف.
التغيير الحاصل ليس في اللغة ولا في نسب العراقيين. بل في بوصلة السياسة في العراق التي باتت غير مرضية للخطاب الرسمي العربي. تغيير لم يفرضه الساسة كما يتم الترويج له، انما فرضته غالبية شعبية بلورت ارادة مختلفة عن تلك التي سادت خلال العقود الماضية.
الخطاب والسياسة العربيتان تتحدثان عن فصل بين السلطة الحاكمة في العراق والشعب. ربما يكون هذا صحيحا اذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان تلك السياسة وذلك الخطاب لم يلق بضلال سيئة على الشعب، الا انهما القيا بضلالهما. السياسة العربية لم تضر بالعملية السياسية فقط، بل جاءت بنتائج كارثية عمقت من حالة النفور العراقي تجاه العرب.
السياسة العربية تجاه العراق كانت دائمة مزدوجة المعايير. هي من ساعدت الدكتاتور السابق على قمع شعبه في الثمانينات ومطلع التسعينات وانتقلت بعد 2003 الى الضد تماما دعمت جماعات معارضة بعضها مسلح ضد السلطة.
من البلدان العربية خرجت القوات الغازية ثم صعّدت البلدان ذاتها من خطاب اعلامي عدائي تجاه الاحتلال بعد ان تغير النظام وانتهت العملية.
وعلى وقع quot;الربيعquot; العربي يسمع الانسان العراقي ان دولا عربيا روجت ضد التدخل العسكري في العراق وهي تدعم اليوم التدخل في بلدان عربية اخرى.
لهذه الاسباب وللاتهامات العراقية بان الاخرين صفقوا للمقاتلين العرب كونهم quot;مقاومةquot;، حصل البعد العراقي، ليس لقرار اتخذته العملية السياسية، بل لوجود شعور جماعي يتعزز عند الاغلبية الساحقة انعكس على الخطاب الثقافي والشعبي العراقي قبل السياسي. والتفكير باعادة الثقة العراقية ينبع من الاعتراف بهذه الاسباب مسبقا.
لكن السياسة العربية ما تزال نفسها، الدول العربية النشطة تقوم بنفس خطواتها تجاه العراق، تتباكى على عروبة العراق من جهة وتساهم في عزله من جهة اخرى. مستوى التمثيل العربي المتدني في القمة مؤشر على ان العالم العربي ماض بسياسة القطيعة التي اعتاد عليها مع كل ما لا يعجبه.
في المقابل الطبقة السياسية معنية فعلا بمراجعة شاملة لشكل علاقتها بايران. فالاقتراب من الجار الشرقي غير المأمون تجاوز حدود علاقات حسن الجوار او تداخل المصالح الوطنية. استخدام ايران في الصراع السياسي الداخلي او في الصراع الاقليمي ساهم في وضع العراق الاقليمي.
حارب العراق بالنيابة عن العرب، اغلب العراقيين اليوم غير مستعدين لعودة هذه السياسة التي تعني بالضرورة انهم غير مستعدين لأي شكل من الحروب بالنيابة عن ايران.
في نهاية المطاف ان العراقيين فعلا امام مشكلة، شعور بالعزلة عربيا، وقوة ايرانية مؤثرة، وعنفوان تركي يبحث عن مكان.. لهذا ولدت فكرة الامة العراقية بدلا عن العربية، لكن في نهاية المطاف لا يمكن لهذا الشعب ان ينقل وطنه الى اوربا او شرق اسيا او الامريكيتين او حتى افريقيا، قدرنا هو الشرق الاوسط. ولو كان بمقدور احد ان يبتعد عن هذا القدر لحصلت تركيا على هذه الفرصة، فلم يشفع نظامها العلماني الاكثر تميزا في المنطقة ولا اقتصادها الغربي ولا قربها الجغرافي من اوربا.. عادت مجددا الى هذه الحاضنة.
الاقتراب من الغرب مهم، ولكن علينا ان لا نتوقع الكثير.. العراق جزء من قدر اقليمي تتبادل فيه اللعبة بلدانه العربية وتركيا وايران، ربما الاحلام فقط تقول غير ذلك.