كان هجوم إيران على الفاو في أشده عام 1986، الحرب العراقية الإيرانية بلغت ذروتها، المدفعية تدك البصرة، وحده صوت quot;إذاعة لندنquot; يسابق صوت القصف، والدي يسترق الفواصل الغنائية ليدير الموجة على quot;مونت كارلوquot; دون أن يمكث فيها كثيرا، وقتها أحببت موسيقى وسرعة إيقاع الأخيرة، قلت له مرة لم لا تبقيه عليها بدلا من لندن، رد علي: quot;البي بي سي لم تكذب علينا، وأنا لا أثق بالفرنسيين لانهم يهولونquot;.
هذه الـ BBC تحتفل بالذكرى الثمانين لانطلاق بثها، لعقود طويلة حققت أعلى نسب المتابعين، لقسمها العربي ذاكرة أجيال خلال سبعة عقود. المذياع رافق وسادة الأجداد والآباء والأبناء، ودقات ساعة quot;بج بنquot; رنت في أذن ملايين السامعين العرب خاتمة أو فاتحة يومهم. يثق العربي وغير العربي بأخبارها أكثر من ثقته بأخبار المحطات الإذاعية المحلية. المتخاصمون أيام الصراع الأيديولوجي تعاملوا معها على إنها الأكثر حيادية بين إذاعات العالم كافة.
انفردت محطة البي بي سي بالمتابع العربي حتى ظهور إذاعة صوت العرب القومية، وهي أول وسيلة إعلامية مسموعة تنطلق من داخل العالم العربي عابرة الحدود الوطنية لبلدان ذلك العالم. غير إنها تجربة مختلفة، خطابها قومي مؤدلج، خطاب معني بالتوجيه السياسي أكثر من المعلومة. ناغمت تلك التجربة عواطفا عربية، حالها مثل المحطات الإعلامية المحلية العربية أيضا، وتلك التابعة للشيوعية ويشمل الأمر إذاعة إسرائيل التي سعت طويلا للتطبيع مع المتابع العربي. بقيت إذاعة لندن الأكثر مهنية وحيادية في التعاطي مع المعلومة.
ومنذ تسعينيات القرن العشرين أسست البي بي سي تلفزيونها العربي. أخفقت بسبب ضغوط سياسية مارستها بعض الدول العربية على بريطانيا، وألغت بث المحطة بعد فترة قصيرة من انطلاقه. استغنت عندها عن العديد من العاملين، أسرعت قطر لاستثمار الفرصة، جمعت أولئك الموظفين وأسست قناة الجزيرة.
بانطلاق القناة القطرية بدء عهد الفضائيات العابرة للحدود في العالم العربي، وتراجع تأثير إذاعة لندن. سبب التراجع ليس حيادية quot;غير متوفرةquot; في BBC العربية، بل دخول عنصر الصورة الذي رجح كفة الفضائيات العربية على وسائل الإعلام المسموعة.
غير أن التقنية والحرفية quot;الفنيةquot; التي استندت لها الفضائيات العربية لم تستطع معالجة أهم مشكلات الإعلام العربي. هذه الفضائيات باتت تمثل النسخة المطورة من إذاعة صوت العرب. استخدمت أدوات كثيرة للإعلام الغربي، لكنها لم تستطع التخلص من العقدة العربية المزمنة؛ quot;هيمنة مطلقة للتوجهات السياسية على الإيقاع الإعلاميquot;.
ففي الوقت الذي استطاعت فيه البي بي سي معالجة قضايا بريطانية حساسة، بل وحتى معالجة صراعات انكلترا مع العالم في ذروة الخلافات بطريقة جيدة، أخفقت كل المحطات العربية على الإطلاق في التعامل مع قضاياها الوطنية، الاعلام العربي ظل جزء من أجندة أنظمة سياسية، وأخضعت للتصورات والرؤى الخارجية لبلدان المنشأ.
إعلاميون يستخدمون معيار quot;الضمير الأخلاقيquot; لتبرير الكثير من السلوكيات، بما في ذلك الكذب، مثلا الوقوف مع المظلوم ضد الظالم، أو الشعوب ضد أنظمتها. هذا المعيار ليس إعلاميا، الإعلام معني بتقديم المعلومة بمصداقية عالية، وإفساح المجال أمام مجمل زوايا النظر. الضمير quot;الإعلاميquot; محكوم بما يجري على الأرض، وليس الكذب أو إخفاء المعلومات للوصول إلى غاية quot;ساميةquot;، الغاية لا تبرر الوسيلة في الإعلام..
وفي العراق ألغيت وزارة الإعلام، وسعى المشرعون إلى quot;استنساخquot; تجربة إعلام الدولة البريطاني. الاستنساخ فشل لليوم بفعل سوء إدارة السلطة السياسية، وعدم وجود أرضية سليمة يقودها جيل من الإعلاميين يتحملون عبء حرث تلك الأرضية. الإعلام quot;شبه الرسميquot; المستنسخ عن بريطانيا مسيس.
اثبتت التجارب حتى الان أن العرب اساؤوا استخدام الإعلام. وظفوه للإعلان والدعاية، وفي هذا تكمن المشكلة. قد تكون الثورات العربية نجحت بفعل الإعلام، ربما أسهم في مزيد من حضور القضية الفلسطينية، وقد تكون الفضائيات سلاحا إضافيا في مواجهة عدو ما، لكن المهم هو كيف تعاملت وسائل الإعلام مع الحدث، وليس كيف أنجحت الحدث. ربما حققت تلك الوسائل نتائج مؤقتة، وانتصارات ما، لكن مصداقيتها تعرضت للكثير من الشكوك، وهذا يسيء إلى العلاقة المستقبلية بينها وبين المتابع.
مؤكد إن BBC وقعت أحيانا في لعبة الاصطفاف السياسي. لكن يجب التأكيد أن الحيادية نسبية، والأخطاء واردة، المهم ان لا تصبح وسائل الإعلام وسائلا للدعاية أو لتنفيذ أجندة سياسية وسلطوية تحدد اتجاهات الخبر والرأي والصورة... التوجيه السياسي المطلق خطر يحدق بمستقبل الإعلام العربي..
هيئة الإذاعة البريطانية ما تزال نموذجا فريدا في تاريخ الإعلام المرئي والمسموع عربيا، أخطاؤها واختراق السياسة لها اقل بكثير من نظيراتها الموجودات عربيا. إنها الجدة التي لا أحفاد لها في العالم العربي، لم يولد من رحمها احد، لهذا ما تزال رغم قدم الزمن نضرة، عراقتها تصنع مزيدا من أناقتها.
- آخر تحديث :
التعليقات