منذ أشهر طويلة والرئيس العراقي جلال الطالباني يعاني من تضخم حالة المرض، ويتعذر عليه القيام بمهامه، في وقت يستدعي حضوراً مضاعفاً وعملاً حثيثاً لتدارك احتمالات المواجهة على صعد مختلفة، ففي العراق تتوالد الأزمات، وتتغول مصالح السياسيين على حساب الشعب، ويقف رئيس السلطة التنفيذية نوري المالكي عاجزاً عن تحقيق نصر حاسم في مقابل خصوم كثر، ذلك أنه لا يمتلك ميليشيا خاصة بحزبه، وأجهزة حكمه مخترقة من قبل منافسيه، سواء كانوا من الإئتلاف الذي هو جزء منه، أو من جهات أخرى، كما أن سلطة إقليم كردستان تعمل هي الأخرى على استغلال حالة التناحر بين شركاء العملية السياسية المفترضين لتحقيق مصالح إقليمية على حساب الوطن ككل، وإن كلّف الأمر التنسيق مع تركيا، وأمام هذا الواقع المتشظي لا يمكن أن تسلم قرارات المالكي من الفردية، ولا يتوقع منه أن ينجح فيما تحدث عنه كثيراً من خطط الإصلاح ومحاربة الفساد، وبسط سلطة القانون. في أجواء انعدام الثقة بين الكتل السياسية المتضخمة، يصبح الهمّ الأكبر لزعمائها أن يضمنوا أكبر قدر من الغنائم من جيب الوطن، وهذا يستدعي بالضرورة عرقلة جهود الحكومة فيما يخدم مصالح الناس، تمهيداً لإسقاطها لتحقيق قسمة أفضل في حكومة جديدة، هذا على الرغم من كون معظم هذه الكتل لها تمثيل كبير في الحكومة والبرلمان. هكذا تفعل القائمة العراقية، ورئاسة الإقليم، والتيار الصدري، على غرابة تشكيله واشتماله على مكونات سياسية شتى، بما فيها عناصر بعثية، وتنوع مصادر دعمه، بخاصة من الجانب الإيراني، وإلى حد ما هذا ما فعله أيضاً المجلس الأعلى في منعطفات معينة.
أعود إلى الرئيس، متمنية له الشفاء، إنسانياً، ولما يقال عن حكمته وقدرته على صناعة التوافقات بين أطراف الصراع، وهي موهبة قديمة عرف بها منذ سنوات المعارضة، ولكن أليست المواهب معرضة للتقادم بالشيخوخة كما هو حال كل الصفات، وهل يمكن لربّان سفينة توشك على الغرق أن يواصل قيادتها وهو مريض، والمرض ليس طارئاً بل هو حادث منذ أشهر طويلة. إن أسوأ أنواع المرض ما كان منه في مركز الرؤية، فأكثر ما تميّز به الرئيس هو تسوية مصالح زعماء الكتل، ولا يهم أين تكمن مصلحة الشعب.
المشكلة الآن ليست فقط في مرض الرئيس، ولكن في أمراض العراق ما بعد صدّام، في تحصيص المناصب، فهناك إصرار من قبل معظم القيادات الكردية على إن رئاسة الجمهورية لابد أن تحتكر للجانب الكردي، وهنا يحق لي أن أسأل، هل هذا مبدأ فيدرالي؟ هل هناك عرف جاري أو قانون في الولايات المتحدة ذات النظام الفيدرالي، على سبيل المثال، يقضي بأن يكون الرئيس الأميركي شقيق أو ابن عم لحاكم ولاية كاليفورنيا أو نيويورك مثلاً؟ بالطبع لا يوجد شيء من هذا، لكن في العراق quot;الجديدquot; كل شيء جائز. ولنعكس الصورة فلو فرضنا إن عبقرية أحد السياسيين العراقيين من العرب، أهّلته ليكون رئيساً لكردستان في ظروف معينة، هل يعني ذلك أن تبقى رئاسة الإقليم بيد العرب؟
وثمة من يقول بأن الرئاسة لابد أن تكون للدكتور أياد علاوي أو لفلان وفلان، وكأن العراق إرث لسياسيين لم يجيدوا إلا الفشل.
وفي مسعى للإمعان بتخريب الدولة quot;الفيدراليةquot; الهشّة، تطوع ألسيد أردوغان ليشارك في إشعال الحرائق، وكأن العراق لا تكفيه سموم أفاعي الداخل، من قاعديين وحلفائهم في جيوب كامنة على أرض الوطن، فها هو يفصح عن طائفيته فيعترض على حكومة المالكي لأنها quot; شيعية وتتلقى دعماً خاصاً quot; ولنسأله هل إن صفة التشيع تعتبر تهمة ينبغي التنصل منها، ومادام لم يسم الجهة الداعمة للمالكي، فليحدثنا عن دعمه لأشقائه في العقيدة السياسية، الإخوان المسلمون في سوريا، وغيرها، ودعمه اللا محدود لشقيقه نائب الرئيس العراقي الهارب طارق الهاشمي، ثم مؤخراً دعمه المشبوه والمريب لقيادة إقليم كردستان في خلافها مع حكومة بغداد، فكلنا نعرف إلى أي حد ظلم الكرد في تركيا، فكيف يكون أردوغان سليم النيّة مع كرد العراق؟
إنه يبشر بأن العراق سيشهد مثل ما تعاني منه سوريا، وهذا لن يكون إلا بتدخل تركي، وهو لذلك يباشر مساعيه التخريبية، فقد أرسل وزير خارجيته إلى كردستان في الصيف الماضي، دون التنسيق مع الحكومة العراقية، ولم يكتف بالتصريحات المسمومة، والعبث بمصير كردستان واستقرارها، بل يسافر إلى الولايات المتحدة لحث الإدارة الأميركية على مساعدته في استكمال شروط الإنهيار في العراق، وبكل صلف موروث من العهد العثماني، يقول أردوغان أنه في حال حافظ الشيعة المعتدلون على وسطيتهم فإن حكومة المركز لن تستطيع التصرف كما قامت به وسينجو العراق والمنطقة كلها معه. وفي رأيي إن المسألة ليست في اعتدال شيعي أو سني، وإنما في أن تكفّ تركيا وإيران ودول مجاورة أخرى عن التدخل في العراق، فلو ترك هذا البلد مع المحتلين وحدهم، لكان في وضع أفضل، على الرغم من كل ما عاناه الشعب من همجية الغزاة.
ومن أردوغان إلى تلميذه الهاشمي الهارب والمحكوم بالإعدام، فقد بشّر العراقيين هو الآخر بأن quot; الربيع العربيquot; البائس الذي حمل لنا الإخوان المسلمين والسلفيين، قد انتقل إليهم، عبر مظاهرات بدأت في الأنبار، عقب اعتقال مئة وخمسين عنصر من حماية الوزير رافع العيساوي، ثم أطلق سراحهم وبقي أحد عشر منهم فقط، بتهمة ارتكاب جرائم إرهاب. وكانت قد اندلعت أعمال تفجير طالت أرواح المئات من الأبرياء عقب اعتقال أفراد في حماية الهاشمي للسبب نفسه.
السؤال هنا ماذا قدم هؤلاء الذين يدعّون الدفاع عن حقوق السنّة لمواطنيهم؟ أليس معظم العراقيين من شيعة وسنّة مهمشون، أليس كل المكاسب من نصيب المسؤولين الكبار وحاشيتهم، سنّة كانوا أم شيعة، وإلا فما معنى أن يكون للوزير العيساوي وحده مئة وخمسين عنصر لحمايته؟ صحيح إن هناك تجاوز في أساليب إلقاء القبض، وعدم تنسيق مع الوزير، لكنه لا يعقل أن تنطلق مظاهرات لهذا السبب، هناك ما هو أخطر وأعمق، وهذا مايفسر نوعية الهتافات التي أطلقت، من قبيل : يا إيران جيش محمد هب الآن، بغداد لنا ولا نعطيها. كما ليس بلا مغزى أن تصدر دعوات من المساجد، تحث الناس على الخروج والتظاهر quot; لحماية أعراض أهل السنّة والجماعة quot;، بالإضافة إلى ذلك فقد سمعت أصوات بين المتظاهرين، تردد هتافات تشير إلى طائفية مقيتة، ووضاعة منفّرة، إذ تصف الشيعة بأنهم quot; خنازير وقردة وأبناء متعة quot; فهل كل هذا تعبير عن مطالب شعبية مشروعة؟ وهل من نظموا هذه المظاهرات، وتبنوا مثل هذه الهتافات يمتلكون ولو قدراً ضئيلاً من الإخلاص لشعبهم، أليس الشيعة والسنّة هم أصحاب هذا الوطن؟
لقد بات واضحاً إن الموج الطائفي النازل الى العراق من جبال تركيا، والمرفود من دول مجاورة وغير مجاورة، يهدد بالإجهاز على البقية الباقية من وطن كلما أراد أن يتماثل للشفاء، تلقى طعنات تعيده إلى غرفة الإنعاش.
إن الوضع يزداد خطورة، ولا أعتقد إن اقتراح رئيس الوزراء بإجراء انتخابات مبكرة سيسهم في حل الأزمات المستعصية، فالوجوه ستتكرر، وبسبب الفساد السياسي فإن معظم زعماء الكتل السياسية المتصارعة أصبحوا من أصحاب الملايين، ما يمكنهم من التحكم بمصائر الناس، هناك حلّ يتطلع إليه الناس، لكنه في غاية الصعوبة، ويتطلب شجاعة لا نظير لها، هو أن تلغى العملية السياسية برمتها، وأن يحاسب كل المتهمين بالإرهاب، مهما كانوا وهذا يقتضي مواجهة صعبة مع إيران أيضاً، فإذا كانت تركيا ترعى إرهاب الهاشمي وغيره، وتعمل على تقسيم العراق، فإن إيران موجودة بقوة في العراق ويهمها أن تبقى الحكومة ضعيفة ومقيدة، وهي تدعم بعض الأحزاب والتشكيلات لتحقيق هذا الهدف. وسيسجل التاريخ للمالكي مكانة كبيرة لو أنه تحلى بهذه الشجاعة، وأعلن الحرب على جميع المفسدين والإرهابيين الذين يلبسون رداء الدين والطائفية.

[email protected]