ما الذي حلّ بقيادة المؤسسة العسكرية منذ أن أحالها الرئيس محمد مرسي على التقاعد، أين ذهبت هيبتها، ورهان الشعب عليها في أن تكون صمام الأمان أمام محاولات الإطاحة بالطابع المتواضع للدولة المدنية، بالتأكيد إنها تعاني من شيخوخة مزمنة، أو أن شيوخها المتقاعدين قد أمّنوا على مصالحهم في ظل الإخوان وفضلوا الأبتعاد عن المتاعب، وما داموا قد آثروا راحة البال فأين القيادات الشابة والمتوسطة؟ بالطبع لا يعقل أن تكون قيادة الإخوان المسلمين قد نجحت في أخونة الجيش، وإن كان هذا مبتغاها وما تعمل من أجله حالياً. هناك من يقول بأن قيادة العسكر نصبت فخاً للإخوان، وأوهمت الرئيس بأن الساحة كلها له، ليتخذ ما شاء من قرارات، تثير حفيظة المعارضة، فتندفع إلى الشارع، ما يهدد حكمه فيلجأ إلى الجيش. وكانت رحلة الدكتور مرسي مع الغرور قد بدأت منذ أن قرر إقالة المشير حسين طنطاوي وسامي عنان، في الصيف الماضي، وخاطب الجيش بلهجة أبوية تبريرية، تدعو للسخرية بقوله:
quot;أردت لأبنائي في القوات المسلحة أن يتفرغوا لحماية الوطن وعلّو الهمة، ومهارة الإدارة والقدرةquot;

ومن خلال مراقبة الأوضاع منذ أن استلم الإخوان وحتى الآن، يبدو أنهم مازالوا يتبعون منطق الدعوة، وبعيدين كل البعد عن تقاليد الديمقراطية التي أوصلتهم إلى الحكم، فكما عملوا في عهد معارضتهم على أخونة المجتمع واستثمروا واقع التديّن الشعبي لتمرير مشروعهم السلطوي، فهم ماضون في خططهم لختم كل مظاهر الحياة بخاتمهم، وهذا ما أفصحت عنه بعض المواد التي صاغوها في مسودة الدستور، والتي هي في مجملها ستقود إلى دولة دينية وفق رؤيتهم، تغيب معها ملامح مصر المدنية التي كلف إرساؤها سنيناً طويلة من الكفاح ضد الإستعمار والدكتاتورية الثورية. ما تشهده مصر من بوادر صراع ينذر بأشدّ الأخطار إنما هو ثمرة مرّة زرعها السادات حين أهدى الإخوان إضافات على المادة الثانية في دستور 1971، وبموجبها أصبحت مبادئ الشريعة quot;المصدر الرئيس للتشريعquot;. الإشكاليات الأساسية في مصطلح الشريعة، إنها غير مقننة، وتاريخها يعود إلى أكثر من ألف عام، وغالب أحكامها ليس من أصل ربّاني، بل من صنع فقهاء لا صلة لهم بعصرنا، فضلاً عن أنهم بنوا تصوراتهم الفقهية على روايات لم يتمكنوا من التحقق من صحتها، وقبلوها دون تحليل عقلي.

إن خطورة نهج الإخوان والسلفيين في فرض نموذجهم الخاص للإسلام على المجتمع، لم تعد تقتصر على قوانين الأسرة والتعامل مع المواطنين الأقباط، بل تعدته إلى المساس بالقانون بشكل عام، وهذا مانبه اليه الدكتور نور فرحات، بقوله أن مسودة الدستور أطاحت بمبدأ الشرعية الجنائية لأول مرة في التاريخ، فقد أقّرت بأن quot; لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في الدستورquot;، وهذا يعني ndash; كما يوضح فرحات- إن القاضي يستطيع أن يستند إلى نص المادتين 219، و10، لابتداع جرائم لم ينص عليها قانون العقوبات. وللعلم فإن المادة 219 تنص على أن quot; مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة quot; ، أما المادة العاشرة فتقول بأن quot; الأسرة أساس المجتمع قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وتحرص الدولة والمجتمع على الإلتزام بالطابع الأصيل للأسرة المصرية وعلى تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها الأخلاقية وحمايتها وذلك على النحو الذي ينظمه القانون quot;. ومادام الدستور قد تضمن هكذا مواد فضفاضة فإن العقلية السلفية الإخوانية التي ستطبقه ستتوفر لها كل الحرية لتجريم أفعال تعوّد المجتمع على اعتبارها مباحة، فعلى سبيل المثال ستغلق كل مدارس الموسيقى لأنها محرمة quot; مفسدة للقلب ومضيعة للوقت ..quot;، وسيلقى القبض على الشباب والشابات في المقاهي لأن الإختلاط غير جائز، وستزُوج الصغيرات بعمر السادسة أو التاسعة لأن روايات السلف تسمح بذلك، والأهم إننا سنفاجأ في شوارع مصر برجال أو نساء وقد تقطعت أياديهم وأرجلهم، وستتقرح جلود من لسع السياط الشرعية، فهذا بمئة جلدة وذاك بثمانين، ونفر من الرعاع يجتمعون لرجم صبية قد لا تتجاوز الثانية عشرة، ذلك لأنها بالغة في عرفهم، وسينشط دعاة السوء للتشهير بالناس وتنفيذ الحدود عليهم، وبسبب كل ذلك وغيره مما لا يسعفني المجال لبيانه، سيجد المصريون أنفسهم وقد غادروا قرنهم هذا ليستوطنوا قرون الظلام من الحكم الأموي والعباسي والعثماني، وصولاً إلى حلكة السلفيين الأشدّ ظلاماً.
هذا الواقع يردنا إلى الأسئلة الأولى، أين ذهب الجيش، وإنه من قسوة الأقدار أن يتطلع الناس إلى سلطة طالما ناضلت نخبهم من أجل الخلاص من حكمها، فقط لأنهم خائفون على وطنهم من أن يغيب في ماضي القرون البائدة، فتندحر فنونه وإبداعه، وتلبس نساؤه السواد، ويستوي حلم الشباب إلى العدم.

ما السبب في هذه الحالة، هل هو في براعة الإخوان المسلمين، أم في غفلة خصومهم وامتناعهم عن تأييد منافس مرسي، الفريق أحمد شفيق؟ هل أخطأ غير الإسلاميين في انسحابهم من اللجنة التأسيسية للدستور، فتركوا القرار للإخوان، هل أخطأوا حين لم يحاوروا مبارك ويستثمروا ضعفه ليملوا عليه شروطهم، قبل أن يستكمل الإخوان مؤامرتهم مع قادة العسكر؟

اليوم يتجمع المعارضون في جبهة إنقاذ ويلجأون إلى الشارع، فهل هذا هو الحل؟ القضاة غاضبون في معظمهم، ولن يقبلوا أن يكونوا شهوداً على دستور معيب، أيمكن أن يتحول غضبهم إلى استنهاض المؤسسات المدنية، سلطة الشارع لا تكفي إذا لم تدعمها مؤسسات قادرة على التأثير وأحزاب قوية، وهذا ما يدركه أي نظام يسعى للدكتاتورية، حين يبدأ بتقويض النقابات ومصادرة استقلالها، فعلها عبد الناصر من قبل، لابد لحركة الشارع من أن تستنهض العمال، وهذا ما ينبغي أن يسترعي انتباه كل المعارضين للقرارات الكيفية التي أصدرها الرئيس مرسي، فلا أمل في معارضات لا تنزل إلى مراكز التأثير الأساسية، التي يمثلها المنتجون الحقيقيون. لقد أخطأت الإدارة الأميركية حين راهنت على المجاهدين الأفغان، لقويض الإتحاد السوفيتي، فصاروا وبالاً عليها، وتخطئ أيضاً إذ تواصل رهانها على الإخوان المسلمين، اعتقاداً منها بأنهم سيكفلون لها ضبط الشارع العربي ويضمنوا مصالحها، نعم مصلحة إسرائيل تتفق مع سيطرة الإخوان، لأنها تؤدي إلى انقسام المجتمعات العربية وتناحرها، فضلاً عن تحجيمها وإبعادها عن حتمية التطور، ما يجعل إسرائيل بلداً متميزاً عن محيطها العربي المتخلف، لكن مصالح أميركا تقتضي الإستقرار، وهذا على فرض تحققه في ظل الإخوان فسيكون بداية لتكتل إسلاموي، مازال أصحابه يحلمون بإعادة عهد الخلافة. وإذا ما امتد نفوذهم على رقعة أوسع، فلن تكون أوروبا القريبة من الشواطئ العربية، بمنجى من تداعيات هذا الحلم، وبالتالي أميركا مهما بعُدت. وقد تنبهت كوندا ليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، مؤخراً إلى مخاطر الأوضاع الجديدة في الشرق الأوسط، داعية بلادها إلى سرعة التحرك، بحجة إن إيران ستكون المستفيدة، وفي المقابل سيخسر حلفاء بلادها، لكن المسألة لاتقتصر على إيران كنظام ديني مستبد، فعقلية الإخوان المسلمين ليست اقلّ استبداداً، فلا مناعة للسلطة الدينية، أيّا كانت من أن تصيبها لعنة الدكتاتورية.

[email protected]