quot;أنا لم أمت أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح quot; (مُعين بسيسو إبن غزة وشاعر فلسطين)

لم تزل مدينة الشاعر تئن من خلف جراحها، ومازال بحرها الساكن في أسرار الهزيمة، { يحكي للنجوم حكاية الوطن الحزين *** والليل كالشحاذ يطرق بالدموع وبالأنين
أبواب غزة وهي مغلقة على الشعب الحزين *** فيحرك الأحياء ناموا فوق أنقاض السنين. كلمات يتردد صداها البعيد ومعانيها الغافية عند أسوار الماضي، نستعيدها مع شحنة الآلام
مع تجدد العدوان على هذه المدينة المرتهنة لدى دولة الحرب الغاصبة، ومجمع الساعين إلى سلام تنقصه قوة الإتفاق، وتعبث به أفكار لاتصمد أمام واقع الخراب، واستحالة النصرة من إخوان يدّعون صدق الجهاد. { ألف شتاء قد مر ومازال *** مصلوبك يا وطني يحلم } أهو حلم السلام في دولة صغيرة مقطعة الأوصال، لا تكاد تتسع لأدنى طموح أبنائها وبناتها، أم إنه حلم النصر والعودة وانزياح الغزاة القدامى والمستوطنين الجدد؟ حلم يرتاح فوق رماد الحروب، وسكينة الإنتظار.
لست في وارد التشاؤم حين أراجع كتاب الأمس من حروب وخيبات، وتضحيات شعب ضاعت في أدراج السياسة العربية، والعنف المتأصل في بنية إسرائيل وحلفائها، لكني أفهم نظرة مواطن غزّاوي إلى علم بلاده، يستجير بنسمة كي يبقى مرفرفاً بين أنقاض أمطرها quot;عمود السحابquot;، أتعاطف مع أمّهات يلدن ويسهرنّ الليالي ولا مستقبل لأبنائهن غير هدنة ما بين عدوان وآخر. أحاول قراءة واقع يعجّ بالمأساة، ويمتلئ بتجار المصالح السياسية، لاعبوه كثر؛ من قادة إيرانيين أتقنوا توظيف الشعار، إلى قطريين مدجّجين بالمال والمواقف المريبة والغريبة، وما بينهما يغرد مصريون بأناشيد النصرة ولا يفعلون.
ماذا يقول الواقع كما أراه؟ قصف إسرائيلي يتواصل على سكان غزة، ولا من مُعين، إيران القوة المعوًل عليها افتراضاً لجعل إسرائيل تحجم عن التمادي في غيّها، لم تبد أي رد فعل ذي شأن، سوى إن وزير دفاعها، أحمد وحيدي وصف هجمات إسرائيل بأنها جرائم حرب وإن جانباً من مسؤوليتها يتحمله quot; من يثيرون قضايا أخرى مثل الأزمة في سوريا، لتشتيت الرأي العام بدلاً من توجيه قدرات المسلمين ضد إسرائيل.. quot; يضاف إلى ذلك ما قاله إسماعيل كوثري، عضو لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى، من أن معنويات القادة العسكريين الإسرائيليين تدنّت، نتيجة توالي الضربات عليهم من قبل حزب الله، وقطاع غزة، وما الهجمات الأخيرة إلا محاولة لرفع المعنويات. ولا يدع كوثري مجالاً للشك بأن بلاده لن تتدخل، فعلى حد تعبيره فquot; إن الشعب الفلسطيني لن يترك الفظائع الإسرائيلية تمر دون رد، ويجب أن تعلم إسرائيل أن الموقف لم يعد مثل ذي قبل وأن الفلسطينيين سيردون على ما ترتكبه إسرائيل بحقهمquot;. إذاّ الفلسطينيون لوحدهم ساعة المواجهة المباشرة، ولا يخفف من ذلك ما أفاد به نائب لبناني عن كتلة quot;الوفاء والمقاومة quot; وليد سكرية، بأن هناك quot; خطاً أحمراً يمنع سقوط غزة quot; وأنه إذا تعرض أمن المقاومة فيها، فعلى quot; كل قوى المواجهة من حزب الله وصولاً إلى إيران، أن تدافع عن كيانها quot; فالدفاع المؤجل ينصرف إلى احتمالات الغزو البري الذي يهدد به الجيش الإسرائيلي، وهو ما لا تريده إسرائيل، وليس من مصلحتها. كما إنه حتى لو وقع فلن يستدع تدخل إيران، فقد كان الأمين العام لحزب الله واضحاً في خطابه الأخير حين قال بأن سوريا تعاني من حرب في العديد من محافظاتها ومدنها وقراها، وبالتالي فهي غير قادرة على تقديم دعم لغزة، وإن القتال في سوريا يشكل إرباكاً لأي عملية إمداد لمحور المقاومة في غزة. وما دامت إيران بعيدة عن فكرة التدخل فإن حزب الله سيكون أبعد، حيث إن سوريا ستبقى مربكة لوقت طويل، فدرب الآلام الذي حفره نظام الأسد، وعمّقه المزايدون، والطائفيون، سيخلّف جراحاً، لن تستطيع أي سلطة أن تداويها دون الإنكفاء إلى الداخل، ولو وصل الإسلاميون فيها إلى الحكم فسيقعون في الحيرة نفسها التي يواجهها إخوانهم في مصر، فضلاً عن ذلك فأنه لم يعرف عن القيادة السورية أنها ساعدت غزة حين تعرضت لعدوان مشابه في 2008، و حينها لم يكن ينقصها الإستقرار.
مملكة الشعارات مترامية الأطراف، وحصونها عالية، بالطبع فأنا لا أبخس حزب الله في مقاومته للقوات الإسرائيلية أثناء احتلال الجنوب، لكني أتكلم بشكل عام، فالنبرة العالية التي يتسم بها خطابه التعبوي العادي، كما نظراؤه في إيران ومصر، يخفت ويتجه إلى الكثير من الواقعية حين يستلزم الأمر دعما حقيقياً للفاسطينيين، وهذا ما سمعناه من حديث السيد حسن نصر الله في أول أيام شهر محرم، فهو يخاطب الدول العربية فيقول : quot;.. نريد أن نوقف العدوان على غزة، هذا لا يتطلب منكم حرب، هذا يتطلب منكم جهدا مع الادارة الاميركية، مع الدول الغربية، وهي تستطيع أن تضغط على اسرائيل. قطعا، حكاية أن اسرائيل لا ترد على أميركا ولا ترد على الغرب، هذا كلام غير صحيح. أي ضغط أو تهديد أميركي أو هاتف أميركي لاسرائيل تقف الحرب على غزة...quot;، كلام جميل لكنه لا يتناسب مع لغة الأمس.
وأنا أكتب هذا المقال بدأت أصغي لكلمة خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، أثناء مؤتمر صحفي عقده في القاهرة في اليوم السادس من العدوان الإسرائيلي، بعد لقائه بكل من رئيس المخابرات المصرية، ورمضان شلح أمين حركة الجهاد الإسلامي، لم يختلف في أسلوبه عن خطبه السابقة في دمشق، ولم يعكس حالة الحرب القاسية التي يعاني منها أهل غزة، وحجم تضحياتهم، كان مطمئناً وقاطعاً في أن الهجمات لم تحقق أهدافها، وكأنه حصل على ضمانات من العدو، حتى أنه قال بأن قادة حماس لن يسعون إلى التهدئة، بل إن هذا ما طلبه نتانياهو. تحدث طويلاً، وقوطع بأصوات عالية، جعلته يستعين بالصلاة على الأنبياء محمد وعيسى وموسى (ص) كي يسكتها، وبعدها لم يترك للصحفيين غير عشرة دقائق، لا تكفي للإستيضاح والإطمئنان. لم تتضمن كلمته أي جديد يتناسب مع أهمية الأحداث على الأرض، سوى إعلانه عما بات معروفاً من اتفاق القوى السياسية الفلسطينية في مواجهة الهجوم الإسرائيلي. قال إنه أتصل بالرئيس محمود عباس، لجمع الصفوف، وهذه عادة عربية تعودنا على عدم دوامها واقترانها بالإضطرار. أهم ما قاله مشعل : quot; لا نريد أن نكون عبئاً على مصر، ساعدونا على قدر ما تستطيعون quot; وبالطبع فهو يعرف جيداً إن قيادة الإخوان لن تتورط في أي جهد حقيقي يؤدي إلى إرباك حكومتها، فهي لم تعد في المعارضة. كما أثنى على الجهد القطري، وفي رأيي إن هذا الجهد لن يساعد حماس بل سيورطها، والتجربة السورية خير برهان. وعلى كل حال فإن التصعيد الإسرائيلي هو خطوة باتجاه مصر، فكما قال مشعل : لقد تعودنا على الحروب، وليس في عدوان إسرائيل من جديد، قصف وحشي، تعقبه تهدئة مصرية أو تركية أو قطرية، الجديد هو في خطط تل أبيب لضرب إيران، فوفق تحليل خبير مستقل في الشؤون الأفريقية، أوبي سيسي، فإن هجوم إسرائيل على مصنع اليرموك للصناعات الحربية، جنوب العاصمة السودانية، في 24-10-12، لم ينصب على هدف ذي أهمية لدى إسرائيل، وإنما هو تمرين عسكري لاختبار قدرة الطيران الحربي الإسرائيلي في المسافات الطويلة، أي قدرته على التعامل مع أهداف إيرانية، وإن الهجوم بهذا المعنى كان ناجحاً، يبقى أن تؤمن إسرائيل حياد الدول التي تخترق أجواءها، إن هي أقدمت على مهاجمة إيران، ففي حالة السودان لم تحتج لذلك لاقتصار الرحلة على البحر الطويل. قد يكون هذا الرأي على شيئ من المبالغة، لكنه يتناغم مع حالة العدوان الإسرائيلي المتواصلة، ويستند إلى سوابق من ضرب المفاعل النووي العراقي في العام 1981.
يقول مشعل إن الأوضاع العربية تغيرت بعد quot; الربيع العربيquot; وولادة مصر الجديدة، حسناً ليبقى هذا الحديث لزهو الشعار، فما سمي بالربيع لم يلد إلا خريفاً ما تزال أوراقه معلقة، أما دعوته إلى مراجعة المسار السياسي العربي، ومبادرات السلام العربية، ورفع السقف السياسي، فكل ذلك منوط بإرادات عربية قوية، لاتسعفنا الذاكرة بأمثلة عليها، لذلك فإن أكثر ما يمكننا البناء عليه في خطاب مشعل، هو ما يتعلق بوحدة الصف الفلسطيني، التي أتمنى أن تكون حماس والجهاد، قاصدتين لها فعلاً، وكذلك أطراف الخلاف الأخرى في السلطة الفلسطينية، هو يردد ما يطلبه الشعب الفلسطيني من قياداته : quot; غزة والضفة جزءان من فلسطين، والسلطة للجميع، ومنظمة التحرير للجميع، غزة ليست جزءاً مستقلاً..quot;، لكنه يستدرك : quot; نتوحد على أساس المقاومة والثوابت.. quot;، فكيف ستكون الوحدة، وهل ستنسفها الثوابت؟ المقاومة لا تصلح كأساس للوحدة، بل هي سبب موجب لها، ما أن تنتهي مفاعيله حتى تتبدد الوحدة، أما الثوابت فكان على مشعل أن يوضحها، وإن يفرغها من تراثها الأيديولوجي كي تكون قابلة للحياة، وأساساً صالحاً للتعامل السياسي، وإلا فلا معنى للحديث عن عودة الإتفاق مع الفرقاء.
حديث التهدئة، والوساطات لإيقاف آلة الحرب الإسرائيلية مستمرة بحسب مصالح من يضطلعون بها، لكن حروب السياسة على الأبواب، فالرئيس محمود عباس اكّد على تصميم القيادة الفلسطينية على التوجه إلى الأمم المتحدة لطلب العضوية غير الكاملة في الجمعية العامة، في محاولة لتنشيط عملية السلام، التي جمدّتها إسرائيل، في المقابل هدد نتانياهو بإلغاء اتفاقية أوسلو، و بدوره عبّر الرئيس الأميركي في مكالمة هاتفيه مع الرئيس الفلسطيني، عن رفضه للتوجه إلى المنظمة الدولية، وأنذر بقطع المساعدات، المقطوعة منذ عام، عن السلطة الفلسطينية، على الرغم من توضيح عباس بأن قراره جاء بسبب استمرار الإستيطان، والاعتداءات على المواطنين وممتلكاتهم. يقول عمرو موسى : quot; ليس لدى السلطة الفلسطينية ما تخسرة في ظل الإستيطان، والحصار الإسرائيلي أشدّ ضرراً من التوجه إلى الأمم المتحدة، وإن خيار القيادة يعد نضالاً سياسياً يجب الإستمرار فيه quot;. إن إسرائيل في ظل قيادتها الحالية، لا تريد سلاماً حقيقياً، ولا أمل في سلام دائم إلا مع تطور وعي الإسرائيليين، وما قد ينتج عنه من تغير سياسي على المدى البعيد، وللإنصاف فإن قلّة من قادة الفصائل الفلسطينية لا ترغب في نهاية الصراع، لدواعي الزعامة، لكن بعض السلام تحتاجه إسرائيل كما قال محمود عباس quot;.. على إسرائيل أن تفهم أنه بدون السلام لا يمكن أن يتمتع أحد بالأمن، وعليها أن توقف شلالات الدم quot;.
في الختام عودة للشاعر مُعين بسيسو الذي توقف قلبه في بداية العام 1984، وكان يحنّ لنظرة إلى فلسطين التي عرفها، من وحي سنين الطفولة وأوائل الصبا، لكنه لم يجدها فاهتدى اليها بمفردات كفاح طويل :
أرسمي من دمي ومن أصفادي
يا أيادي خريطة بلادي
الضحايا قد عانقتها الضحايا
والأيادي تشابكت بالأيادي
فنهوضاً إلى النضال نهوضا
لا يعيش البركان تحت الرماد

[email protected]