طالما حيرتني أسئلة لم يفلح كثيرون ممن حاورتهم في الإجابة عليها : هل ينجح الإيمان في إطفاء نيران التعصب، وهل يمكن أن يرتقي المؤمنون والمؤمنات إلى ذرى منطق ابن عربي حين يقول: { لن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقر جميع الخلائق}، وكذلك إلى شيئ من انفتاح عقله في تفهم نظرائه في الخلق من غير المسلمين، هل سمعوه حين أنشد أبياتاً في الحب المتعالي، إذ يقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان، ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طـائـف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه.. فالحب ديني وإيماني

وابن عربي كما يتحدث عنه المحقق والأديب يوسف زيدان، كان قد عنى في قصيدته إن كل الأديان تسعى في طريق التقرب إلى الله، ولو بأشكال مختلفة، وإن هناك مستويين للدخول إلى معاني كلماته، الأول هو النظر إلى الأديان باعتبارها تجلّيات متتالية للحقيقة الإلهية، وهذا هو المعنى الأبسط، أما المستوى الثاني فيتسم بالتعقيد - حسب رأي زيدان - ويتمثل بفكرة الحب نفسها، وما يمكن أن ترتقي به لتصل إلى الحقيقة المرتجاة. وحين نؤمن بأن الحب هو الذي جعل الله يرسل أنبياءه ليعلم الناس طرائق الوصول اليه، ندرك إن ما من سبيل لبلوغ مرضاته أكثر من أن يخلص الناس في ودهم لشركائهم في الإنسانية، فيتجنبون بذلك غوائل التعصب، الذي يقود إما إلى الكراهية والحروب، أو إلى أوهام الشعور بالتفوق والأفضلية، وهذا ما لا يتفق مع هدف التعارف بين الشعوب والقبائل المختلفة،الذي أشار اليه القرآن الكريم، فليس أحد أفضل من أحد إلا بالتقوى، والتقوى في جوهرها خلق كريم لا ينسجم مع تجّهم المتشددين وادعاءاتهم بالتميز.
يضيف زيدان في محاضرته عن ابن عربي، شيخ الصوفية الأكبر، إنه عبّر عن ألمه لفقد الفيلسوف ابن رشد، ناظراً إلى نعشه من جانب وكتبه في الجانب الآخر، فقال: هذا الإمام وهذه أعماله *** ياليت شعري هل أتت آماله، ويذكر إن ابن عربي كان قد التقى ابن رشد في الأندلس، في الوقت الذي كان في مقتبل شبابه، بينما كان شيخ الفلاسفة في نهايات عمره.

وكما نعرف فإن الآمال مازالت مرجأة، وكلما لاح بارق منها، تطوع لها من يطفئها، فكان ما كان من تراجع في مباني الفكر وتجلّيات العمل، وما كان من تأخر مرتبتنا في تسلسل الأمم من حيث العلوم ومناهج الإجتماع. وفي حيرة تساؤلاتي لم أغفل صعوبة أن ترتقي عامة الناس إلى فكر ابن عربي وغيره من الأعلام الذين نظروا إلى الدين كسبيل لمعرفة الخالق، ولم يلجأوا إلى تطويع مفاهيمه لتصبح وسيلة للتغلب على الأمم الأخرى، وفرض معتقدات معينة على أهلها، لكني في الوقت نفسه أدرك ضرورة التذكير بالأمثلة الباهرة من تراثنا، وأهمية بذل الجهد والمثابرة على نشر نتاجاتها الفكرية، في مواجهة مد سلفي يحاول إفراغ حضارة المسلمين من مضامينها المعرفية، ويصارع على جبهتين أساسيتين، حربه ضد كل مظاهر التقدم بما تعنيه من حقوق النساء، وحرية الإنسان في التعبير، واحترام الفنون والآداب، وحرب أخرى ضد التصوف بما يعنيه من تديّن شعبي مسالم، والتماس الشفاعة من مقامات الأولياء الصالحين، إلى جانب ما يمثله الفكر الصوفي من طرائق بحث مستفيض لفهم العالم، وذلك بتجاوز ظاهر الأشياء لإدراك بواطنها، وهذا ما يؤرق السلفيون، فهم حرفيون، نقليون، بلا تفكّر وتمعن في الخلق ومتطلبات الحياة.

وبعيداً عن هؤلاء الذين ليسوا هم وحدهم سبب تخلفنا، أرى إن أخطر أسباب التعصب تكمن في مناهج التعليم الديني في بلداننا العربية، فحين أتذكر دروس التربية الدينية في المرحلة الإبتدائية وما بعدها، في العراق على سبيل المثال، لا تحظرني أي معلومة عن الأديان الأخرى، فالتوجيه كان مقصورأً على الإسلام في إطار من التلقين المانع من التأمل والسؤال، وإذا ما وردت أي إشارة إلى الأديان الأخرى فتكون من باب الإزدراء وتقليل الشأن، وهذا يعني إن الطالبات والطلاب الذين يقبلون على التعليم الجامعي، لا تتوفر لديهم رؤية أولية لما يدين به نظراؤهم في المواطنة، من المسيحيين والصابئيين والأزيديين واليهود، وليسمح لي القرّاء بأن أركزعلى التعليم الإسلامي، كون أغلب الدساتير العربية تتضمن مادة تقول بأن الإسلام هو دين الدولة، بمعنى تغليب الناحية العددية للمواطنين، دون الإلتفات إلى التنوع الديني، وأقصد تحديداً بلدان المشرق العربي ومصر، كذلك لأن القرار السياسي هو بيد القادة المسلمين، أي إنهم يتحكمون بالوجهة العامة لمناهج التعليم، ويملكون القدرة على إصلاحها إن أرادوا. هذا الإستدراك يبدو لي ضرورة إستباقية كي لا يقول قائل بأني أستثني مناهج التعليم المسيحي، كل ما في الأمر إنني أعتقد بناءً على متابعة سيرورة تاريخية عامة، إن السلطة السياسية بإمكانها التأثير في حركة المجتمع، كما إن بيدها استغلال الدين لترتيب مصالح معينة، سواء أكانت مؤمنة به، أو راغبة في تسخيره لخدمة أغراضها.

ولا يسعني في هذا المجال مقارنة أحوالنا بدول الغرب، لكن من المفيد التمعن في تجربة هذه الأقطار المتقدمة، في التعليم الديني، وانعكاسها في قناعات النشئ الجديد من بنات وأبناء الجاليات العديدة المقيمة لديها، والمتنوعة في دياناتها، ففي بريطانيا مثلاً، تقدم المدارس لطالباتها وطلابها، معلومات عن الأديان المختلفة، دون انحياز وترجيح للدين المسيحي، على الرغم من أن ملكة بريطانيا تعتبر الرأس الأعلى للكنيسة الإنجليكانية. وكنت حظرت في إحدى المدارس الإبتدائية احتفالاً نظمته الإدارة ، لطلابها وطالباتها من المسلمين والهندوس، لمصادفة تزامن عيديهم الديني في إحدى السنين . وحبذا لو انتهجت وزارات التربية في بلداننا مثل هذا النهج الحيادي في التعريف بالأديان، وتركت التفاصيل للعائلة، وللفرد ذاته حين يبلغ من الرشد ما يساعده على التمييز. وكان أحد أصدقائي قد حاورني في هذا الشأن، واستغرب من خشية بعض المسلمين على إيمانهم إذا ما اطّلعوا على الديانات الأخرى، وكان رأيه إن الإسلام دين راسخ، ولا ينبغي أن تصل خشيتنا عليه إلى درجة تضعف ثقتنا بأنفسنا، ولفت انتباهي إلى ماكان يدعوا له الأديب والصحافي الفلسطيني إميل حبيبي، من انفتاح، وما كان يتسم به من ثقة عالية بالنفس، فهو لم يكترث بمنتقديه، وسخر ممن خشي على اللغة العربية من أن تتأثر بتعلم اللغة العبرية، وممن خافوا من التطبيع مع إسرائيل. إن أمة تمتلك تراثاً غنياً من المعارف المختلفة، وتمتلئ صفحات تاريخها بأسماء مضيئة كالمعرّي والحلاّج وابن سينا وجابر بن حيّان والمقفع، والرازي والفارابي، وغيرهم من العلماء الموسوعيين، لا ينبغي لها أن تجهلهم أو تتجاهلهم، وتكتفي بلعن الغرب وإنجازاته، كي تقول للعالم إنها خير {أمةً أُخرجت للناس}، فالله حين قال ذلك، قرنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس على طريقة السلفيين وحلفائهم من التشكيلات السياسية ذات الواجهة الإسلامية، بإكراه الناس على مسالك معينة، والإساءة إلى شركائهم في الوطن، من الذين ينتمون إلى ديانات أخرى، ويعتبرون تاريخياً أصحاب البلاد الأصليين قبل دخول المسلمين إليها، ولكن باللطف في التعامل مع الناس، واحترام تنوعهم، والمجادلة بالتي هي أحسن، وتوخي آيات المبادئ السامية في القرآن، التي تخاطب النبي (ص) باعتباره رسولاً مبلّغاً ومذّكراً وشهيداً، وليس مسيطراً أو حفيظاً أو وكيلاً، أكثر من هذا فقد نبهت الآية 99، من سورة يونس، إلى حقيقة يجهلها المتشددون، مؤكدةً على حرية الفرد واختياره في نظرته إلى الإله : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين }، إنها مشيئة التنوع وأهمية احترامه كي تبلغ البشرية غاية السلام.

[email protected]