بعد أن عمّ الضجر مساحات الإهتمام العراقي، وتكررت مشاهد بؤس الوفاق، بين أبطال الصراع، من الصادحين باسم الدستور والقانون، والمتمترسين خلف راية الإقليم، واصحاب العمائم المتجولين، وبعد أن تعبت الأسماع من زمجرة السياسيين، وارتطام قراراتهم ببعضها، وجدت أن أهرب مؤقتاً الى أحاديث الناس وانطباعاتهم، فلسفتهم، تفاصيل الوطن في أدبياتهم، فرحهم ويأسهم. وصادف أن التقيت بعدد من الصديقات والأصدقاء في أحد المقاهي، تبادلنا الحديث، كل من طرف الحقيقة التي يعتنقها، في ضوء تجربة قريبة، او بعيدة مختمرة في ذاته، أحدهم عاد من بغداد منذ بضعة أسابيع، يسرد حكايات عن الناس والأماكن، يعثر في مجاهل المستقبل على حزمة تفاؤل، فيبتسم ويقول إن البلاد بخير، ما دام هناك زوايا صغيرة تستريح فيها العقول، حيث لا سلطة للواقع، وفرصة لغياب الشعور بالقهر .. آخر يحتج على هدوء صاحبه ويروي لنا مقطعاً مروّعاً من رحلته قبل عامين، الى مدينته، يقول: كنت سعيداً لأني سالتقي بصديق عزيز، واستغرقت في شريط الذكريات، بينما كان السائق يأخذني الى منطقة نائية، ثم يتوقف فجأة ويأمرني بالنزول، حسبت اني وصلت ولكني فوجئت بنباح الكلاب، وبكلبين آدميين ينقضّان عليّ، يتقاذفاني بلكمات وركلات، ويغمراني بأحط الكلام، شعرت باقتراب نهايتي، لكني ما خشيت الموت لإنه انعتاق للروح من قيد الجسد، قالوا لي: حياتك تساوي ما بجيبك، فأعطيتهم محفظتي الفقيرة، وإذا بأحدهم يصفعني ويدير رأسي، ينتزع ساعتي وخاتمي، يجبرني على خلع سترتي وحذائي، يأخذهما ويخاطب صاحبه : ضيعنا وقتنا مع هذا الفاسق، شارب الخمر، لنذهب. ذهبوا لكن جروحي استفاقت، تحايلت على الألم ومشيت مأسور الخاطر بأطياف الغائبين من أحبتي، اعتذرت لهم لأني مازلت حياً، بينما هم يتوسدون التراب، ها هي الحياة تنبعث فيّ مجدداً، هل ينبغي أن نموت لنحيا، هل يموت الوطن فينا، وتتلاشى الذكريات، في انتظار حياة جديدة؟ لا لا..

قلت له وماذا بعد؟
لا شيئ، إنه زمن العبث، لن أكون جاداً أبداً، وهكذا قررت مغادرة مدينتي دون أن أرى أصدقائي، لم أتصور كيف ألقاهم وأنا كسير النفس، تمنيت لو أستعير قلباً بلا ذاكرة، وأن تهجرني دموعي، ويذهب صفو نفسي ساعة الحلم، فلا أرى أطياف كل من أحب، عدت الى منفاي وبيتي البارد، الى رتابة أيامي، ورفقة كأسي الذي يهديني سلام النسيان، ويجعلني قادراً على الفخر وصناعة الأمجاد، ثم يسلمني لرقاد هادئ ... سكتت كلماته وأطرق في انتظار دمعة وشيكة ..
قلت لأنتقل الى صاحبنا المتفائل، أين أنت من متاهات صديقك، لماذا لم يخطفوك؟ ضحك وقال: ربما لأني لست حالماً مثله، والوطن أقبله كما هو الآن، أبحث عن الفرح الممكن، وأجيد التعامل مع بقاياه القديمة، التمس الحذر، ولا ارتدي سترة أنيقة أو حذاءً لامعاً، كي لا يطمع فيّ أحد، ويخالني ثريا قادما من عالم بلا تراب ولا فقر، ثم أني لا أفهم ndash; ووجّه حديثه الى العائد المحبط ndash; كيف يهزمك إثنان من الأوباش، وقد خبرت غلظة رجال الأمن، وتعذيبهم، وخرجت مرفوع الرأس، لتقول لنا ها أنذا لم أمت؟
أفاق صاحبنا ليرد عليه: عزيزي أنصحك أن تستعير مرآة من إحدى السيدات، وتنظر الى وجهك، أأنت نفسك في السبعينيات، هل تجري في عروقك الآمال نفسها، أتعلم إن رياح آذار مهما اشتدت، فإنها لاتسقط كلّ الأزهار، ويبقى منها ما يستحيل الى ثمرات زاهية، بينما تسقط أنسام أيلول وتشرين كل أوراق الشجر، فتصبح عارية، وأنا كذلك في خريف العمر، يستحيل اقتلاعي من ذاكرتي، لكن قبضة يدي وعنفواني، وشحنة الغرور في ذاتي، كلّ ذلك شيئ من الماضي...
قلت دعونا من سيل الكآبة هذا، والتفتّ الى إحدى الصديقات : ماذا عن رحلتك؟ هل حقاً سرت دون حجاب في أحياء شعبية؟
نعم، ليس كل النساء هناك خائفات، لا أكتمكم، كنت مرعوبة في البداية، شعور لم أعهده من قبل، لكني قررت أن أعمل بحكمة جدي quot; جرّب الخوف تأمنquot; فاقتربت منه، عانقته، كي أفوز بالأمن، قلت لن أخسر شيئاً غير إحساسي بالقهر، نصحتني أختي بأن أتلفلف بعباءة سوداء، لم أقتنع وفضلت المغامرة، قلت لأشجّع بعض النساء على تخطي معاناتهن، بالطبع أنا لا أختصر مشاكلهن بهذه العباءة، فلو كانت تعبيراً عن فكر يقبلنها أو عادة لا تستفزّهن، لا ضير، أما حين يفرض عليهنّ ارتداؤها، وتصبح عنواناً للفضيلة، فلا، أنا لا أتلون في خلقي، لا أكذب أو أدّعي، لا أنافق، لكني أعشق الألوان في الطبيعة، يمكن أن أرتدي ثوباُ جميلاً بلون السماء، تزينه ورود، قد يكون طويلاً بطول معاناة أهلي، لا بأس، المهم أن يشي ردائي بهويتي كامرأة لها الحق بحسن المظهر، أن تنساب خصلات شعري فتأخذ من الشمس والهواء شيئأ من الحرية، لا أمانع في ربطة الى الخلف كي لايكون فتنة كما يقولون، وكي أحميه من عبث الغبار، صدقّوني إن الرجال هناك، مهما تحملّوا، فأحمال النساء أثقل، يكفي أنهم يسيرون بحرية، لا يتطفل عليهم أحد، يزجون أوقات فراغهم في المقاهي، يلتقون بأصدقائهم، يتحدثون بصوت عالي، يشكون همومهم، وبأسوأ الأحوال يتسكعون في الطرقات، والذين لا يلبسون العمائم أو كوفيات، أو ما شابهها، يحتفظون بحقهم في ترتيب شعرهم كما يشاؤون، وحين يجنّ الصيف، يتحايلون عليه بملابس تتناسب وحرارته القاتلة، لا كالنساء في سواد ردائهن، أو جلابيبهن، يتوسلن نسمة هواء تنعش شواء أجسادهن..

قلت لها وماذا بعد، كيف وجدت الناس؟
حين قررت العودة بعد ثلاثة أشهر من الجري المستحيل خلف ملف تقاعدي ،قالت لي خالتي، لا ينبغي أن تسافري قبل أن تزوري مقام الإمام، ذهبنا سويةً بصحبة زوجها وبناتها، وقبل أن نصل الى موقع الصحن، لمحنا كومةً بشرية يتطاير فوقها الذباب، وتنتشر منها رائحة كريهة، لم أصدّق، إنه رجل مقعد وحيد، لا يقوى على الحركة،جاء به عابروا سبيل فقراء الى هذا المكان، لكثرة الزائرين، علّه يحظى بعطفهم، فينتشلونه من بؤسه، لكن لم ينتبه اليه أحد، ولم تمتد اليه يد محسنة، كان هناك الكثير من رجال الشرطة، ينظروم اليه ويكتفون بالأسف، وحين طلب زوج خالتي منهم أن يساعدوه لتنظيفه وتغيير مكانه، سخروا منه وقالوا: الله يساعده!! صدمت ورفضت أن أدخل للزيارة، ما اظطر مرافقي الى أن يعودوا معي. أعلم أني أرهقتكم بهذا المشهد. لدي حكايات كثيرة عن والدتي ورفيقاتها، حضرت مجالسهن، واستمعت لأحاديثهن عن فراق الأزواج، وبعد البنات والأبناء، إحداهن كانت تعيش حزناً نطقت به عيناها، روت لنا لحظات وداعها لشريك عمرها، الذي أحبته، قرأت لنا رسالة ابنتها، تدعوها للعيش معها في السويد، ابتسمت وقالت : أخشى من البرد أن يبدد دفء الماضي،، أعيش في بيت الذكرى ولن أذهب الى الديار البعيدة، أشفق على طيف يزورني في منامي فيقطع كل المسافات كي يقول لي أحبك، أحب مدينتي بكل ما فيها من ممالك الحزن، وفي حديقتي أشجار أستظل بها عندما يشتد حزني.

[email protected]