قبل أيام استعاد اليمنيون الجنوبيون ذكرى إعلان الحرب عليهم، من قبل الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، الذي رفض جميع المساعي العربية والدولية لحل الخلاف داخل دولة الوحدة، وأصرّ على إخضاع الجنوب بالقوة، مبتدئاً حملته العسكرية في السابع والعشرين من شهر نيسان-ابريل من العام 1994. ولا شك إن أهل الجنوب يتحسرون اليوم على زمن كانت لهم فيه دولة مستقلة، ويتمنون لو لم يغامر قادتهم بتقديمها لقمة سائغة على مائدة رئيس الشمال، الذي لم يتصور حتى في أحلامه، أن يصبح رئيسا لكل اليمن، وهو الذي بذل سنيناً من عمره في نسج المؤامرات، وتدبير الإغتيالات، للوصول الى السلطة، وكان أكثر ما يأمله هو إضعاف دولة الجنوب. إن الوحدة اليمنية ليست شراً في حد ذاتها، لكنها كبقية مشاريع التوحيد العربية، اختصرت في شخصية القادة، وجاءت وفق قرارات غير مدروسة، فقد كان الرئيس الجنوبي علي سالم البيض من أكثر المتحمسين لإبرام الوحدة مع الشمال، مدفوعاً بعاطفة شعبية، وبوهم الخروج من تداعيات الأزمات النفسية والإجتماعية التي خلفتها المواجهات الدامية بين إخوة السلاح ورفاق حركة التحرر، والتي حدثت في يناير من العام 1986، وأسفرت عن خسائر كبيرة في الأرواح، وتصدّع في بنية السلطة السياسية، وغياب شخصية فاعلة ومؤثرة، هو الرئيس الأسبق، عبد الفتاح اسماعيل مع نخبة من رفاقه، تزامن كل ذلك، مع تراجع دور الداعم الأساسي لجمهورية اليمن الديمقراطية، الإتحاد السوفيتي الذي شهد بدايات انهياره، مع تاريخ التوقيع الأول على ميثاق الوحدة في العام 1989، ثم الإعلان عن قيامها في مايو من العام التالي.
على الجانب الآخر من خط الوحدة، كان يقف علي عبد الله صالح، مترصداً غفلة قادة الجنوب، ومتحفزاً لاستلام قيادة الدولة، لا ليرسي سياسة قائمة على الأخوة والمساواة بين شطري الدولة الجديدة، وإنما ليؤدي دور المحتل والقابض على ثروة الجنوب، وليلغي مكاسبه الإجتماعية، محولاً شعبه الى منطقة الصفر، ليس هذا فحسب، بل إنه فسح المجال لنقل كل ما يشكو منه الشمال، من قبلية، وترخيص للسلاح، الى الجنوب، وعمد الى إلغاء التقنين على بيع القات والترويج لتعدد الزوجات، وفرض الحجاب بالقوة، الى جانب إطلاق يد حزب الإصلاح المتشدد، لتعبث في الجنوب، وتطلق صيحات التكفير، ودعاوى القتل. لم يكن صالح معنياً بالوحدة إلا بقدر ما تساعده في تعزيز سلطته، وكان تلميذاً مجتهداً، فيما يتلقاه من توجيهات أستاذه صدّام حسين الذي كان يضمر كراهية وحقداً على قادة الجنوب، بسبب موقفهم الصارم والشجاع، في مواجهة مخططاته للقضاء على معارضين عراقيين كانوا قد التجأوا الى جمهورية اليمن الديمقراطية. وكان صدّام يصرّح بسخطه على قادة عدن باعتبارهم خارجين عن الخط القومي، بما أنهم أعلنوا تبنيهم للفكر الماركسي، ولذلك كان شديد الكرم مع صالح، وقد أغدق عليه الملايين، وكافأه لوقوفه الى جانبه في حربه مع إيران، ولم يكن النظام العراقي وحده الذي يخشى قادة الجنوب ويعمل على الإطاحة بهم، بل شاركته انظمة عربية أخرى.
في دراسة مستفيضة، نشرها الصحافي العراقي، سهر العامري، في موقع الحوار المتمدن، بعنوان : الوحدة اليمنية-الوقت والظرف الخطأ، يشير الباحث الذي عمل لفترة طويلة في صحيفة 14 أكتوبر اليمنية، الى التحضيرات التي سبقت الوحدة، في عهد الرئيس الأسبق، عبد الفتاح اسماعيل، ومنها الندوة التي عقدت في عدن وشارك فيها مندوبون من دول مختلفة، وكان الهدف منها التوصل الى أفضل السبل لتحقيق الوحدة بين جنوب اليمن وشماله، وقد أفرزت النقاشات اتجاهين في هذا الامر، الأول ذهب الى إمكانية الوحدة بين نظامين مختلفين، أي مع المحافظة على خصوصيتهما، وكان الرئيس مع هذا التوجه، ويعتقد الكاتب إن إسماعيل لو كان في موقع علي سالم البيض، لما تعامل مع مسألة الوحدة بتلك البساطة والتسليم. الإتجاه الثاني ركّز على ضرورة التماثل بين النظامين، وإلا تعذّرت الوحدة. ويشرح الكاتب ما يستند إليه كلا التوجهين، بتسليط الضوء على التباين الشاسع بين الجنوب والشمال، في مستوى التطور الإجتماعي والإقتصادي، ويورد مثلاً على ذلك، يعود الى العام 1962، فالناس في صنعاء كانوا يتزودون بالماء من حنفيات قرب قصر الإمام، بينما كانت بيوت عاصمة الجنوب عدن، مربوطة بشبكة أنابيب الماء. كما يعدد الكاتب المكاسب التي حصل عليها الجنوبيون في ظل حكومتهم المستقلة، والمتمثلة بالتعليم المجاني في كل مراحله، والعلاج على نفقة الدولة،وضبط أسعار المواد الإستهلاكية، بحيث تتناسب مع مستويات الدخل، بالإضافة ألى الإعتراف بحقوق المرأة، والعمل على معالجة البطالة، وتوفير السكن، والتشجيع على القراءة بتوفير الكتب بأسعار زهيدة. وبالإجمال فإن الفارق في التركيبة المجتمعية، كان كبيراً بين الشمال والجنوب، ففي الوقت الذي ظهرت في الجنوب طبقة عاملة متعلمة، ونهضة صناعية، كانت القبيلة هي السمة الأبرز في كيان مجتمع الشمال وكأنه مازال في الحقبة الزراعية والرعوية. ولم يقتصر هذا الوصف على مرحلة الستينيات، وهنا أتذكر تحقيقاً عن السجون في الشمال، قرأته في إحدى الصحف اليمنية بعد الوحدة، يشير الكاتب فيه الى أنه زار أحد السجون، في منطقة وعرة، نسيتها السلطة، وكيف كان زوار السجناء يمنعون من العودة الى بيوتهم، ويقضون بقية حياتهم في السجن دون سبب.
إن السياسة الإشتراكية في الجنوب، التي أفضت الى تحسين المستوى الإجتماعي، وترقية الوعي، وإن لم يصحبها توجه حقيقي نحو الديمقراطية، كانت التحدي الحقيقي أمام علي عبد الله صالح، الذي لم يكن يستوعب معاني التطور ودور
السلطة السياسية في تقدم المجتمع، ربما بسبب تواضع تكوينه المعرفي، أو لاحترافه العمل في الأجهزة الأمنية، وما تتطلبه من التركيز على تقوية النظام، عبر الدسائس، والمحافظة على التوازنات القبلية، أكثر مما توفره لخدمة المصلحة العامة، ولذلك فقد اختار مواجهة التحدي بأقصر الطرق، فعمد الى إخضاع الجنوب، وتعميم نهج التخلف، لإلغاء أي تمايز بين طرفي الوحدة، ودحر النموذج الإشتراكي. ولكي يسهل عملية تخريب البنية الإجتماعية والثقافية للجنوبيين، رتّب لاغتيالات متعاقبة لشخصيات من الحزب الإشتراكي، منذ بداية الوحدة، ولجأ لاحقاً الى استضافة الأفغان العرب، فكانوا ضمن المهاجمين الذين غزوا الجنوب في حرب العام 1994، وبعدها اصبحوا يحتلون مواقع في أجهزة صالح الأمنية.
يقول الكاتب اليمني محمد صالح قحطان، إن محاولات تسليم الجنوب ل quot;أنصار الشريعةquot;، هي استمرار لمخططات حرب العام 94 التي عرفت بشعارات الدفاع عن الوحدة، ومحاربة الشيوعيين، وفتاوى تكفير الجنوبيين، لاستباحة أرضهم، وقد تغير الشعار في هذه الأيام الى محاربة النظام وتطبيق الشريعة. والسؤال الملّح الآن هو لماذا القاعدة أو أنصار الشريعة، في الجنوب فقط، لماذا تمكنوا بسهولة من السيطرة على زنجبار، عاصمة محافظة أبين، وإذا كانوا يحاربون النظام فلماذا لا يقصدونه في عاصمة الشمال ومدنه الأخرى؟ أليس في هذا دليل على توظيف النظام للقاعدة، للإجهاز على الحراك الجنوبي، بكل تجلياته، لكي ينشغل أهل الجنوب بالدفاع عن أنفسهم، ويكفّوا عن المطالبة بتحسين أوضاعهم، والمشاركة في ثورة التغيير التي عمّت البلاد، وأفضت الى خلع الرئيس المراوغ.
إن توظيف نظام الوحدة القسرية، لعناصر القاعدة أصبح حقيقة معروفة، وفي هذا الصدد يؤكد الكاتب قحطان على أن quot;أنصار الشريعة هم صناعة يمنية، تعتمد في معظم قوتها وقيادتها على الأمن القومي، والقوات الخاصة والفرقة الثالثة المدرعة، وإن استجلاب بعض الشباب المغرر بهم من الخارج، محاولة لخلط الأوراق ..quot; ويضيف الكاتب، بأن النظام بتسخيره لأنصار الشريعة، quot;يعمل على إجهاض انتفاضة الجنوب التي رفعت شعار فكّ الإرتباط مع الشمال، وكسبت أنصاراً في العالم.. quot;. ولكن على الرغم من قوة ضغوط السلطة على الجنوب وذراعها القاعدي، فإن المقاومة الشعبية تبدو على درجة من التصميم والوعي، وهذا ما دلّت عليه أحداث لودر وتصدي شبابها لغزاة أنصار الشريعة، ومنعهم من السيطرة على المدينة.
بالأمس حارب نظام صالح أبناء الجنوب، باسم الشرعية التي افتقدها على مر حياته السياسية، واليوم وبعد أن تم خلعه جزئياً، ما تزال سياسته سارية بشأن السيطرة على مقدرات الجنوب ومنعه من حقه في تقرير مصيره، ولا يملك الرئيس المؤقت الحالي، وهو جنوبي، أن يقرر سياسة مستقلة في محاربة القاعدة، أوإصلاح الأوضاع مع الجنوب، طالما بقي أنصار صالح وأقرباؤه، ممسكين ببعض مفاصل السلطة المهمة.
إن وجود القاعدة في الجنوب لا يهدد استقراره ومستقبله فحسب، وإنما يهدد العالم بأسره، فهناك إمكانات كبيرة للتواصل بين عناصرها، والقراصنة في الصومال، الذين توافد بعضهم الى الجنوب، وبالتالي فإنها مرشحة لمزيد من القوة والتموضع في مناطق حساسة، ما يهدد الملاحة الدولية. إن الأمل معقود على تطور الحراك الجنوبي باتجاه العودة الى الإستقلال، ولا يتحقق هذا إلا بتضامن العالم، الذي سيجني فوائد حقيقية من وجود دولة تعمل فعلاً على تجفيف منابع الإرهاب، وتأمين خليج عدن والبحر العربي من القرصنة البحرية، وليس كما كان يفعل على عبد الله صالح من ابتزاز دول الجوار، والولايات المتحدة، بادّعائه وكالة محاربة القاعدة.
بعد كل هذا لا أجد في الوحدة اليمنية، سوى أحد فصول المأساة في تاريخ الجنوب، وأرى التخلص من أسرها، امتداداً لنضال شعب الجنوب ضد الغزاة والمحتلين على مر العصور. وهنا استحضر بيتا للشاعر اليمني محمد أحمد منصور، كان عامراً بالوهم إذ يقول عن الوحدة :
صنعتها نفوس شعب أبّي
لا حسام ولا دم مصبوب
لا شك بأن الشعب أبّي وأصيل، بخاصة أهل الجنوب الذين كانوا أول المبادرين الى الوحدة، لكنها منذ قامت، بدأت الدماء تسيل، والكرامات تهدر، حتى آل الأمر الى الغزو واستباحة الأرض، فما عاد يصّح قول الشاعر:
إذا احتربت يوماً وسالت دماؤها
تذكرت القربى وسالت دموعها
فلا دموع لعبد الله صالح، ولا وخزة ضمير، وكذلك حلفاؤه بالأمس، وأركان نظامه، فالكل متفق على الإمساك برقبة الجنوب، مهما اختلفوا.
- آخر تحديث :
التعليقات