في كلمة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، خلال زيارته للقاهرة العام الماضي، قال quot; بكاء طفل فلسطيني في غزة يوجع قلب أم في أنقرة quot;، وهذا جميل منه لو كان وجع هذه الأم البسيطة التي يمكن أن نجدها بين كل الأمهات في العالم، قد انتقل اليه فعلاً وليس ادعاءً، ولعلّه يدرك تماماً إن طفل غزة المحروم من طفولته لا يختلف عن أطفال قرى كردستان العراق، أولئك الأبرياء الذين تمطرهم قواته بقنابلها، ويسحق مشاتها أرضهم.
لا شك في شعبية أردوغان لدى الأوساط العربية، كما لا يشك معظمنا بذكائه ونجاحه في التوفيق بين الإرث الحاضر لعلمانية الدولة، وحداثة إسلاميته الظاهرة، إنما الشك في مدى نجاحه في بعث أحلام الإمبراطورية العثمانية وما تنطوي عليه من عوامل القهر للعرب وأمم أخرى، الشك في صدقية أحاديثه عن جرائم فرنسا تجاه الشعب الجزائري، بموازاة إصراره على إنكار مذابح أسلافه العثمانيين ضد الأرمن في العام 1915، وليس في هذا القول دفاع عن ساركوزي لأنه ببساطة يحاكي زميله التركي في نزعته لنبش ماضي الآخرين، دون الإلتفات لتاريخ بلاده الإستعماري. الملاحظة الأساسية على أحاديث الرئيسين، إن المنطق غائب لدى كليهما، فالتركي يصف قانون معاقبة إنكار جرائم إبادة الأرمن، بأنه قانون عنصري، ويعتبر إصداره تعدياً على quot; الشرف القومي التركي نفسه quot;، فهل الشرف بنظره يكمن في التستر على الجرائم الكبيرة؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الفرق بين أردوغان وبشار الأسد الذي ينكر مسؤولية نظامه عن أعمال القتل ضد المحتجين، ولا يقول شيئاً عن ما اقترفه أبوه بحق سكان مدينة حماة في بداية الثمانينيات؟ أما ساركوزي وأسلافه فقد فشلوا أيضاً في مواجهة حقيقة ما فعلوه من آثام في الجزائر، ولم يقدموا لشعبها ما يستحقه من واجب الإعتذار، باستثناء ما صدر عن شخصيات فرنسية بشكل منفرد، وما زالت حكومة الجزائر تطالب فرنسا بالإعتذار رسمياً. وكان ساركوزي قد رفض فكرة quot;التعبير عن الندمquot;، معتبراً إن ذلك من أشكال الحقد على الذات وquot;التشهيرquot; بالنفس، مكتفياً بانتقاد النظام الإستعماري ووصفه بالظالم.
اليوم تزداد أهمية دور تركيا، مع تدهور الأوضاع في سوريا، ولجوء العسكريين المعارضين لنظام الأسد اليها، وتحول حكومتها من مؤازرة وناصحة للنظام السوري، الى داعية لإسقاطه، وبالتزامن مع هذا الدور، وبالإضافة الى ما تشكله القوات التركية من تهديد دائم لإقليم كردستان في العراق، فقد دخلت الحكومة التركية في نادي الدول التي تدعي الحرص على طمأنينة وسلام المواطنين العراقيين السنّة، وبدأ رئيسها سجاله مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وبذلك اكتمل حظ العراق النحس، فالشيعة ابتلوا بإيران وبخبث ساستها وتوظيفهم للدين والمذهب، وأصبح على السنة أيضاً أن يتحملوا غرور أردوغان وادعاءاته بالدفاع عنهم.
والغريب في موقف أردوغان تجاه الحكومة العراقية، إنه لم يعبر عن حرصه المصطنع على الوئام بين الطوائف في العراق، إلا بعد انفجار أزمة طارق الهاشمي، نائب الرئيس، وكأن هذا هو من يمثل فعلاً ملايين المواطنين من السنّة، والسؤال المفجع، هل يجوز أن يرتهن مصير العراقيين لإرادة فرد، مهما كان، هل يحق له ولغيره أن يدعي تمثيلهم؟ يقول أردوغان إنه لن يسكت إذا اندلع نزاع طائفي في العراق، ويبرر ذلك بدواعي علاقات القربى والجوار، فهل راعى جيش بلاده هذه المعطيات، سابقاً وحاضراً، في تعامله مع جواره الكردي، وهل سأل كم من الضحايا سقطوا بقصف طائراته، السؤال الثاني، ماذا سيفعل أردوغان من أجل أن تتحقق ظنونه وينشب لا قدّر الله نزاع بين إلشركاء في الوطن، ليبدأ تدخله؟ لا أظنه سيفعل شيئاً غير أن يطلب من رئيس إقليم كردستان أن يرسل الهاشمي الى أنقرة، ليتباحث معه في كيفية التحرك ضد قرارات المالكي، فلدى النائب الهارب الخبرة الكافية بشأن زعزعة النظام العراقي، ونشر الفوضى السياسية والأمنية. الرئيس التركي المزهو بإعجاب العرب والمسلمين، لا يعرف عنه تاريخ تآمري أو عضوية في جماعة إرهابية، هو رجل مولع بصورته كإسلامي معتدل وذو شخصية قريبة للنفس، وكنت قد شاهدته في إحدى القنوات الفضائية التركية وهو يغني لحناً محبباً سمعناه في مسلسل تركي، قارنت بين ابتسامته وبين تلك الوجوه المتجهمة للكثير من السلفيين، الذين يتوعدون المسلمين بالويل والثبور، ويعتبرون الموسيقى أم ّ المعاصي. غير إن أردوغان أصيب مؤخراً بمرض الزعامة العابرة للحدود، كما حصل تماماً للرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي توهم بأنه رمز للأمة العربية. وما شجعه على االإستسلام لنزعات القيادة، المشهد العربي المفتقر الى زعامات مقتدرة، وفي الوقت نفسه وصول الإسلاميين الى الحكم في كل من تونس ومصر وليبيا، ولتسامحني الأحزاب الإسلامية الحاكمة في العراق، فهي غير محسوبة في هذه المعادلة، كونها ذات صبغة شيعية.
الآن يتنادى كل من المالكي وأردوغان الى سجالات غير حكيمة، فما كان على الرئيس التركي أن يدلي بدلوه في قضية داخلية، تستبطن شبهة الإرهاب، وأن ، يمنحها بعداً وطنيا، تفتقر اليه أساساً، وما كان عليه أن يبالغ ويستبق الأمور.
والمالكي بدوره كان عليه أن يتجاهل تصريحات نظيره التركي، لأنه مظطر الى السكوت عن تصريحات إيرانية مستفزة، وآخرها ما قاله قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، الذي تباهى بنفوذ بلاده في العراق وجنوب لبنان، وأكّد قدرتها على رسم الخارطة السياسية في هذين البلدين. أقول أنه مظطر وليس راغباً لأن الوجود الإيراني حقيقة ضاغطة على جميع القوى السياسية في العراق، وليس على حزب الدعوة فحسب، فلو كان الدكتور أياد علاوي في الحكم لما استطاع أن يواجه قوة الحضور الإيراني، وهو الذي كانت له زيارات متعددة لإيران لإقناع قادتها بأحقيته في السلطة.
إن نفوذ إيران في العراق هو ثمرة مرّة لا يستسيغ العراقيون طعمها، لكن بعض القوى السياسية تحاول أن تضيف عليها قليلاً من السكر، كي لا تبدو فاقدة الحيلة أمام جمهورها، إنه ثمرة ثماني سنوات من الحرب (1980-1988)، خلّفت أحقاداً ومئات الألوف من الضحايا، والمهجّرين، فضلاً عن الإدارة الأميركية السيئة للعراق، التي تجاوزت حقائق كثيرة على الأرض. أما التدخل التركي فلن يسهم في إصلاح الأوضاع في البلاد، سوى أنه سيزيد من الإستقطاب الطائفي الذي تشجع عليه الدوائر الإقليمية، كي لا يستعيد العراق دوره في المنطقة، ويمارس تأثيره في منظومة الدول المصدرة للنفط.
[email protected]