أبدأ هذا الجزء من مقالي، بالعودة إلى تعليقات الإخوة القرّاء، لما تضمنته من أفكار تستدعي الإهتمام. أول تعليق اتّسم بالمكر الطريف، فقد توقع كاتبه أن يتغير لقبي من محمد إلى عيسى، وردي عليه أن لا داعي للتغيير، لكوني أحببت الإسمين معاً، فكما أشعر بالسكينة المحببة حين أستمع لصوت عبد الباسط عبد الصمد وهو يرتّل القرآن الكريم، أشعر بالألفة والصفاء حين أصغي لأناشيد الكنائس في عيد ميلاد المسيح المجيد، كما وأحييه لإشارته إلى دور الرجل وأهمية تحلّيه بالعفّة، كضامن لحسن الخلق، وليس التركيز على زي المرأة. أدهشتني مثابرة المعلّقين وعدد المشاركات الذي بلغ إثنين وسبعين تعليقاً، وأسفت لأن معظمها انصرف إلى سجال عقائدي بين المسيحية والإسلام، وهذا ما لم أتطرق له في مقالي الذي خصصته لموضوع الحجاب وأثره في السلوك العام. وأعتب على القارئات لاقتصار مشاركتهن على واحدة، ولها فضل الدخول في صلب الموضوع، وأنقل بعض أسئلتها: (هل طرحك للموضوع لدحض فرض الحجاب شرعياً بهذا التحليل من خلال النص والأحداث ؟؟ أو تتساءلين إن كان هناك علاقة بين الحجاب وانحسار الرذيلة؟ اختاري أي منهم لإن هذا يعكس تحيز الطرح! لماذا لا نسأل العكس هل أدى التبرج والسفور إلى تفشي الرذيلة؟) ، وجوابي على تساؤلاتها هو كالتالي:
أولاً- نعم أنا أعتقد بأن الحجاب ليس فرضاً وهذا سبق أن ذكرته في الجزء الأول، مستدلة بكثير من الآيات التي تبدأ بلام الأمر أو كلمة قل، ولم يقل أحد من الفقهاء بأنها فرض، أكثر من ذلك فإن الآية التي وردت بلفظ الفريضة، بشأن نصيب المؤلفة قلوبهم، جرى تعطيلها أو إلغائها في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، بما يعني إمكانية تجاوز النص حتى لو جاء بصيغة الفريضة، إذا ما غاب السبب المؤدي إليه، وكما نعلم فإن آية الجلابيب، اقترنت بظروف خاصة تطلبت تمييز المسلمات عن الجواري اللواتي اعتاد المسلمون على استباحتهن بالبيع أو بالمعاشرة، أو حتى بالتحرش في الطرقات، ومنعن من التشبه بالحرائر في زيّهن، وكان الغرض من الآية إبعاد الأذى عن المسلمات بشيئ من التميز في المظهر، في وقت لم يكن هناك رجال شرطة وأي شكل من أشكال الحماية للنساء. أما بشأن كلمة الحجاب التي وردت في ألآية 53 من سورة الأحزاب، التي تخاطب المؤمنين ممن يتوجهون إلى بيوت النبي في طلب الطعام، فقد تزامنت مع مظاهر العدوان على النبي (ص)، وتهديد البعض له بالزواج من قريناته من بعده، وظروف المسلمين آنذاك كانت عصيبة، تهددهم فصائل الأحزاب المتحالفة ضد دولة المسلمين في المدينة، لذلك جاءت الآية لتحذر من عواقب الإساءة الى الرسول، وفي الوقت نفسه ترشد المسلمين إلى كيفية التعامل مع أهل بيته { .. وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً }، واضح من معاني الآية إنها خاصة بزوجات الرسول، والغرض الحصري منها هو منع الأغراب من الدخول إلى بيوتهن، والإستئناس بالحديث معهن، وهذا ما لا يرغب فيه النبي كما تشير الآية { .. إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق } وكل ما تقدم يشير إلى الجانب الزمني في النص القرآني، ويحيلنا إلى موضوع الترابط بين السبب والحكم الشرعي، وهو ما أفاض في شرحه الفقهاء، لكنهم توقفوا عن الإستدلال به في موضوع لباس المرأة، وأضفوا عليه طابع الإلزام غير المبرر، كما أنهم فسروا هذه الآية بعمومية فائقة وجعلوها دليلاً على إن زوجات الرسول (ص) محجوبات كلياً عن محيطهن، لا يراهن أحد من الرجال، ولا يرين أياً منهم، وقد رويت أحاديث بهذا الشأن، كحديث الأعمى الذي زار الرسول، وكانت إحدى زوجاته معه، فقال لها أن تنصرف، فلما تساءلت ولماذا والرجل أعمى، أجابها: وهل أنت عمياء؟!! وعلى ذمة هذه الرواية وأمثالها فقد حكم على أمهات المؤمنين بأن يكنّ حبيسات دورهن، وهذا ما لا يرضاه الله لهن. أكثر من ذلك فقد ذهبت تفسيرات متشددة، قديمة ومستحدثة لتلك الآية، إلى إن المقصود بها كل النساء، على الرغم من ورود آيات تبشر زوجات الرسول بثواب مضاعف إن هنّ اتقين، وبعكسه يضاعف لهنّ العذاب، ف { يا نساء النبي لستنّ كأحد من النساء .. أحزاب 32}.
بعد ما تقدم،آتي إلى آية الخمار : { .. وليضربن بخمرهن على جيوبهنّ.. 31 سورة النور}، وحسب تفسير القرطبي quot; فإن سبب نزولها إن النساء كنّ يغطين رؤوسهن بالأخمرة، ويسدلنها من وراء الظهر، فيبقى النحر (أعلى الصدر) والعنق لا ستر لهما، فأمرت الآية بإسدال المؤمنات للخمار على الجيوب لستر صدورهن، أي إن الآية قصدت تغطية الصدر بدلاً من كشفه، دون أن تقصد زيّاً بعينه quot; ( حقيقة الحجاب وحجّية الحديث ndash; المستشار محمد سعيد العشماوي، ص 15، 16). وعن شرح معنى الجيب (موضع الفتحة في القميص عند الصدر) في ملابس نساء عهد النبوّة، يقول الزمخشري في الكشّاف : quot; كانت جيوب النساء واسعة تبدو منها نحورهنّ وصدورهنّ وما حواليها، وكنّ يسدلن الخمُر من ورائهنّ فأُمرن بأن يسدلنها من قدّامهنّ حتى يغطينها quot; ( حسين أمين ndash; حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، ص84)، وهذا يعني إن شعر المرأة لم يكن معنياً بهذه الآية، ما يجعل تركيز الدعاة على غطاء الرأس، نوعاً من التشدد الذي لا يقوم على سند.وقد يكون موضوع خمار النساء - حسب قول عشماوي، ص 16 ndash; شبيهاً بالتوجيه النبوي للرجال بأن quot; يحّفوا الشوارب ويطلقوا اللحىquot; وهو حديث يكاد يجمع الفقهاءعلى إن القصد منه وقتي، هو التمييز بين المؤمنين وغير المؤمنين quot; الذين كانوا يفعلون العكس فيطلقون الشوارب ويحفّون اللحىquot;.
لن أخوض في أسانيد دعاة الحجاب من الأحاديث المنسوبة إلى النبي (ص) لأن ذلك يستغرق صفحات طويلة، ولاعتقادي الذي يشاركني فيه الكثير ممن يهتمون بموضوع الحجاب وغيره، بأن الأساس في أي حكم هو القرآن، وكل ما تعارض أو تناقض معه، أو زاد عليه بقصد التضييق على المسلمات، لا يلزمنا.
ثانيا ndash; إن كون الحجاب quot;فرضquot; أو ليس بفرض لا يؤثر في النتيجة الماثلة أمامنا من كونه لم ينجح كآلية لدفع فتنة النساء عن الرجال، كما لم يحصّن النساء من فتنة الرجال. إن الفتنة مهما كان مصدرها لا تقتصر على الزي، بل هي في أبلغ حالاتها تكون في الحديث والنظر وطبيعة الشخصية ومدى جاذبيتها. وليس من باب الطرافة أن أنقل ما قالته امرأة عراقية زارت بلدها بعد غربة طويلة، ونصحها أقرباؤها بالحجاب، فزادت عليه بالنقاب، وتجولت في المدينة، ماذا كان انطباعها، قالت إن المرأة بهذا الوضع تستطيع أن تحدّق في الرجال بحرية وفضول أكثر، ما يجعلها في حلّ من الإلتزام بغضّ الطرف كتعليمة قرآنية أو بالحد المتعارف عليه من الآداب الإجتماعية في النظر، من يعرفها ومن يؤاخذها على تجاوز توجيهات دينها غير نفسها وما تؤمن به من مبادئ؟ ربما هي لا تقصد لكن حصار النقاب قد يدفعها لذلك، وفي هذا الصدد ألاحظ كثيراً من الشابات وهنّ يسرفن في تحديد مفاتنهن بملابس ضيّقة، ويضعن المساحيق والألوان على وجوههنّ، بينما يحرصن على تغطية شعورهنّ، أليس هذا تعويضاً عن إخفاء جمال بسيط في أنسدال الشعر الذي هو أقلّ لفتاً للإنتباه مما يفعلنّ؟ فوق ذلك فإن أنواع الحجاب باتت تستعمل للتغطية على ممارسة مهن غير لائقة بنساء مسلمات متّقيات، كما إن الحجاب لم يمنع كثيراً من النساء من إقامة علاقات مع رجال تحت مسمى الزواج العرفي أو المؤقت أو السياحي أو زواج الفريند .. إلخ من صيغ يشجع عليها بعض رجال الدين، وبخاصة الفضائيين منهم، ومن المذاهب المختلفة.
ثالثاً - لم يؤد السفور الذي عرفته المجتمعات العربية إلى الرذيلة، ولا أعرف عمر القارئة، ولكن لها أن تسأل نساءً أو رجالاً عاصروا الخمسينيات والستينيات، والسبعينيات، ليقولوا لها كم كان التعامل بسيطاً ومحترماً بين نساء سافرات وزملائهن في الجامعات، ومجالات الوظيفة العامة ،والتعليم ، والطب، وغيره، ولتقارن أجواء تلك الفترات مع سلوك الناس في هذه الأيام بعد أن أتخموا بفكرة الحجاب وتطبيقاتها المختلفة في أغلب الدول العربية، فالمرأة صارت مرصودة بشدة وينظر لها بعدوانية وكأنها مصدر الشر، الذي أضرم نيرانه رجال، سواء بالحروب أو بالدعوة إلى التشدد في نوع مبتكر من التديّن. الحقيقة كما أراها يا عزيزتي القارئة، إن ما يمنع من الرذيلة - حسب فهمي لمدلولاتها ndash; هو عاملين: التربية السليمة الخالية من العقد، والمحيط الإجتماعي النظيف، وكلاهما يساهمان في صياغة شخصية امرأة متوازنة قادرة على التعامل مع صعوبة الحياة، فحتى إن سقطت، لن يكون سقوطها مأساوياً، وتكون لديها قدرة على النهوض. إن ما دعاني إلى توجيه السؤال في مقالي هو ما يقوله دعاة إلزام المرأة بالحجاب، من أنه علاج يقطع دابر الرذيلة، وإن ابتعاد المجتمعات عنه كان سبباً لما تشكو منه من علل تتعلق بالأخلاق. ولعلك يا أختي تستغربين من أني تلقيت مكالمات من صديقات محجبات اتفقن معي في الرأي من أن الحجاب لم يساعد على نشر الفضيلة، على الرغم من تصريحهن بأنهنّ مازلن يعتقدن به. إن مقالي هذا هو دعوة للمناقشة والتحليل، ولا أبغي منه الأنتقاص من أحد، ولي كثير من القريبات والصديقات المحجبات اللواتي أحفظ لهن صدق المودة.
أحد المعلّقين حاول أن يؤكد لزومية الحجاب فقال: السيدة مريم العذراء كانت محجبة، فلماذا نناقش الأمر، حسناً أيها الأخ، لنأخذها منك كحقيقة، أفكل النساء مريم؟ أم كلهنّ والدات لأنبياء؟ أنا أفهم تماماً حجاب الراهبات، لأنهنّ زاهدات عن متاع الدنيا، وزيهنّ يتناسب مع طبيعة حياتهنّ ومهمتهنّ في الحياة، أما أغلب دعاة الحجاب في زماننا فيطلبون من النساء الزهد، وفي الوقت نفسه يدعونهنّ لممارسة أقصى أنواع الخبرة في تمتيع أزواجهنّ، والتغاضي عن تجاوز بعضهم، بما يعتبرونه حق لهم، وأقصد زيجاتهم المتعددة، والموقتة، وكذلك فجورهم وتعاطيهم مع quot;ملك اليمينquot; المستحدث بفعل الحروب والمآسي.
قارئ مصري فاضل، كتب لي على عنواني المرفق بمقالاتي، ووقع باسمه، وأنا أحترم هكذا قرّاء، لذلك سأرد عليه بإفاضة على عنوانه، وأعرض للقرّاء بعض أفكاره لأهميتها. هو يعتقد بأن كتابتي لا صلة لها بالواقع، لأني لا أعرف المجتمع المصري، وإن التديّن لا ينبغي أن ينظر إليه كمظهر للتخلف، ويرى إن استشهادي بقول للباحث جمال البنا، غير مقبول، لما أُثير بشأن بعض أحاديثه من إشكاليات، وبسبب ما وصفه به مذيع من كلام جارح وغير دقيق.وبما أني أشرت إلى رأي البنا، فإن القارئ تولدت لديه شبهة بأني متحاملة على مظاهر الدين الإسلامي.
أشكره أولاً لأنه وصف الحجاب ضمناً بأنه مظهر للدين وليس جوهراً، وثانياً أقول له أنني لست متحاملة على مظاهر الدين، بل أسعى لكي يفهمها الناس على حقيقتها وارتباطها بالتاريخ، وآمل أن تتوافر لدى المسلمين فضيلة التمييز بين الإيمان بالله وأنبيائه، وبين تفاصيل الأحكام الوقتية في المعاملات والملابس. كما أني لا أعتبر التدين دليلاً على التخلف، بل أنا أحترم المتدينين، لكن ما يهمني هو نوع تدينهم ومدى صدق إيمانهم ومراعاتهم لمكانة المرأة في المجتمع.
لست بعيدة عن فهم الواقع المصري، فلي صديقات وأصدقاء كثر، أسمع منهم وأناقشهم، وقد زرت مصر ولا أحتاج لزيارات ميدانية لاكتشاف حقائق باتت واضحة، ربما يقصد القارئ بمعرفة شعاب مصر وخوافيها، أسباب الحجاب الإقتصادية، وأنا لا أنكرها، لكن هذا لا يحجب الجهود والأموال التي صرفت منذ عقود، لترسيخ النظرة السلفية للنساء، وجعلها أساساً في التعامل معهن، وبالتالي كان الحصاد انتشاراً للفكر السلفي بحيث شهدنا لافتات لمرشحات سلفيات تظهر صور أزواجهنّ بدل صورهن لأنهن quot;عورةquot; بنظر أئمة السلفية المستحدثين. والمجتمع المصري لا يختلف كثيراً عن المجتمع العراقي في مظاهر بؤس النساء واضطهادهنّ، وكنت قد اتخذت من هذين المجتمعين كمثال فقط.
قد يقول البعض إن العيب ليس في الحجاب وإنما في من يرتدينه، نظرياً أتفق مع هذا الطرح، ولكن ألا يشبه هذا القول بأن العيب ليس في الإشتراكية، وإنما في تطبيقاتها، وإنه ليس في الرأسمالية، وإنما في جشع الأغنياء؟ ألسنا حين نهمل بحث الخلل الكامن في بنية المبدأ أو جوهره، نكون قد وفرنا الفرصة لإساءة التطبيق؟ إن أطروحة الحجاب بمجملها تقوم على المعالجة المظهرية للخلل الأخلاقي في بنية المجتمع.
أما تحامل القارئ على الأستاذ جمال البنا، فهو غير مبرر، لأني سمعت حديثه الذي أثار لغطاً وعدواناً مصدره سوء الفهم، فقد اتهم الرجل بأنه يدعوا الشباب والفتيات إلى عدم مراعاة قواعد الآداب الإجتماعية المتعارف عليها، وهو لم يقل بذلك، بل كان يناقش أزمة الشباب بشكل عام، وانفلات علاقاتهم في الجامعة بسبب تعسف الأهل في متطلبات الزواج، التي لا تنسجم مع تعاليم الإسلام البسيطة. وإزاء التشدد في التعامل مع أخطاء الشباب، نقل البنا تفسيرات علماء مسلمين من أمثال القرطبي وابن كثير والطبري، للآية 32 من سورة النجم، وتقول : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة ..}، واللمم هي الذنوب الصغيرة التي تكفرها الحسنات والإستغفار، كما قال البنا، وأضاف بأنه نقل ثلاث صفحات من تلك التفسيرات، وكلها تعرّف اللمم على أنها، القبلة أو الضمّة، وكل ما لم يصل إلى العلاقة الكاملة، إذاً فما هو ذنب البنا، ولماذا التحامل عليه، الأولى هو مراجعة التفسيرات المذكورة وإلقاء اللوم عليها، وكذلك معاقبة المذيع الذي تجرأ على الرجل، حسب رواية القارئ.
أنا أستشهد بالبنا لأنه رجل يحب الإسلام، لكنه صريح ويرفض المخاتلة في السلوك، وقد عجبت من مذيعة تحاوره وتنتقده بشدة لأنه لم يعارض إمامة المرأة للمصلين، ولأنه ذكر تفسيرات اللمم، وهي لم تكن محجبة، بل متبرجة، دافعت عن التشدد وازدرت فكرة إمامة النساء وكأنها داعية سلفية، ردّ عليها بابتسامة يائسة : إنه النفاق الإجتماعي.
أخيراً أقول للسيد القارئ وغيره من السادة القرّاء، لنبحث عن الفضيلة في السلوك، ونستفتي قلوبنا في تبين الطريق القويم.

[email protected]