إنها المرة الأولى في تاريخ الحكام العرب، أن يتقدم رئيس دولة باعتذار لمواطنة، لمّا أصابها من رجال يفترض أنهم يطبقون القانون ويسهرون على حماية الناس من شرور المجرمين. أنه الرئيس التونسي المنصف المرزوقي الذي قدم اعتذار الدولة لفتاة كان قد اغتصبها شرطيان، واستقبلها برفقة خطيبها، معبّراً عن تعاطفه معهما لأن هذه الجريمة سببت لهما quot;أذى بالغ الخطورة، مسّ جميع التونسيات والتونسيينquot;، فتحية له وكل الإعتزاز به كمناضل ومثقف قضى سنوات طويلة من عمر كفاحه مدافعاً عن حقوق الإنسان، ولم يعتبر وصوله إلى الرئاسة نهاية المطاف، فظلت عينه الرقيبة وفية لمبادئه، وهو يعبّر باعتذاره عن quot;ضيقه بصمت الحكومة المريب تجاه الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسانquot; وهذا قول يتداوله المهتمون بمجال الحقوق والحريات.
وكان بيان لرئاسة الجمهورية قد تضمن إدانة الرئيس الشديدة لتصرفات هذين المجرمين، واعتبارها ماسّة بشرفهما أنفسهما، واشتمل على تقدير quot;لأعوان الأمن الذين رفضوا التستر على زملائهم، مما يعتبر دليلا على أن الخلل ليس في المؤسسة الامنية وإنما في عقلية بعض أفرادها الذين لم ينتبهوا إلى انه قد حصلت ثورة في البلاد من أجل ان يعيش كل أبناء وبنات تونس أحراراً ومكفولي الكرامةquot;. ويؤكد البيان على إن مثل هذا السلوك المدان، يمكن أن يحصل في كل بلدان
الأرض، لكنه quot;لم يعد هناك في بلادنا من مجال للتسامح لا مع المغتصبين ولا مع من يتسترون عليهم أو من يريدون قلب الحقائق، وإن رئاسة الجمهورية ستتابع هذه القضية عن كثب حتى لا تطغى أية اعتبارات سياسية فوق اعتبار سيادة القانون ورد الحق لأصحابه وثقة التونسيين في مؤسسات دولتهمquot;.
إن حرص الرئيس على التحذير من quot;الإعتبارات السياسيةquot;، يجد تفسيرة في التداعيات الأمنية والقضائية لهذه الجريمة، ففي محاولة من الشرطيين لتغطية فعلتهما الشنيعة، أدّعيا بأن المجني عليها وخطيبها كانا يمارسان quot;فعلاً فاحشاًquot;، عقوبته في القانون السجن الناجز لمدة تصل إلى ستة أشهر، وهو ما دعى قاضي التحقيق بمحكمة تونس الإبتدائية إلى استدعاء المجني عليها ومرافقها، للتحقيق معهما، الأمر الذي أثار حفيظة منظمات حقوقية ونسائية، أتهمت الحكومة بـquot;تحويل المتضررة إلى متهمةquot;، بخاصة وإن انتهاكات حقوق الإنسان في تونس آخذة إلى ازدياد، بحكم استشراء المد السلفي، الذي سبق للرئيس التونسي، المرزوقي، أن حذر من خطورته، ويعلم كل متابع مقدار حقد السلفيين على النساء وحرصهم على إنكار دورهن في المجتمع، إلا من إدارة أعمال المنزل، وتمتيعهم في الفراش، واستيلاد الذرية.
وفي قراءة لتصريحات رسمية صادرة عن وزارات الداخلية و العدل و حقوق الإنسان، التي يتولاها أعضاء في حركة النهضة الحاكمة، يتبين مدى الإمتعاض من تحوّل واقعة اغتصاب الفتاة إلى قضية رأي عام، يتضح ذلك من انتقاد وزارة الداخلية لما أسمته بـquot;التوظيف الإعلامي للقضيةquot; وكذلك فيما تضمنه بيان لوزارة العدل، يعبّر عن توافق مع ما ادّعاه الشرطيان ضد الضحية: quot;إن اعتبار شخص متضرراً من جريمة ما، لا يمنحه حصانة في حالة ارتكابه جريمة أخرىquot;، كما إن وزير حقوق الإنسان تحدث عن quot; شبهات الإغتصابquot; في محاولة للتشكيك بحصول الجريمة. ولكن إزاء انتشار المعلومات عن محاولات جهات حكومية للتستر على الواقعة، فقد صرح وزير العدل نور االدين البحيري بأن الشرطيين المغتصبين سيعاقبان، ونفى أن يكون القضاء قد حوّل المتضررة إلى متهمة.
وكانت الناشطة الحقوقية سهام بن سدرين، رئيسة المجلس الوطني للحريات، التي رافقت المجني عليها لدى استقبال الرئيس المرزوقي لها، قد أعلنت بأن قاضياً هدد الفتاة بمقاضاتها خلال أول جلسة استماع إليها، إذا تحدثت عن تعرضها لعملية اغتصاب، ولذلك اتهمت وزارة العدل بالسعي للتستر على الجريمة. كما نبهت محامية الضحية، راضية النصراوي، إلى أن وزارة الداخلية حاولت التكتم على الجريمة، ومارست هي الأخرى ضغوطاً على الفتاة.
كثيرة هي المنظمات التي نددت بالجريمة وبطريقة التعاطي الرسمي معها، من بينها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وجمعية إنصاف وحرية، وفي حديث لرئيسة المركز المصري لحقوق الإنسان، نهاد أبو القمصان، لفضائية فرانس 24، قالت إن جرائم الإغتصاب تعتبر آمنة بالنسبة لمرتكبيها، إذ يراهنون على سكوت الضحايا وخوفهن من الفضيحة، وإجراءات النظام العدلي المهينة للنساء. إلا إن هناك استثناءات تؤكدها بين الحين والآخر نساء يتحلين بالشجاعة والتصميم على إظهار الحقيقة، فمع صعوبة ظرف هذه الفتاة التونسية ذات الإثنين وعشرين عاماً، التي لم تكشف عن إسمها بعد، ولا تعرف عائلتها بما حصل لها، فهي تقول في تصريح لها لوكالة رويتر للأنباء، في الثامن والعشرين من الشهر الماضي: quot;لقد وجهوا لي تهمة التجاهر بما ينافي الحياء، وأصبحت أنا المتهمة! هم بهذا يغتصبونني من جديد. حقيقة أنا في حيرة من أمري ، وقد فكرت بالانتحارquot;.
وتضيف : quot;رغم كل شيء، أنا لن أتنازل عن حقي، فهذه المسألة هي قضية حياة أو موت بالنسبة لي quot;. كما أكّدت ماقالته محاميتها من تعرضها لضغوط من وزارة الداخلية. ولكن للإنصاف أنقل ما نشره موقع إذاعة مونت كارلو الدولية، نقلاً عن رئيس الوزراء التونسي (النهضوي) حمادي جبالي، قوله عن الجريمة: quot;إنه اعتداء صارخ على حريّة وشرف فتاة وهذا مدان ولا يمكن الدفاع عنه ولا البحث عن أسبابه إنها جريمة تمثل خطورة على مجتمعنا وعلى المرأة التونسيةquot;، غير إن هذا القول يتناقض مع بيانات الداخلية والعدل، ومع سلوك المسؤولين المباشرين فيهما عن القضية.
غريبة قوانينا العربية، كما هو غريب ذلك الجانب من أخلاقنا الجمعية، المسرف في النفاق، فالنصوص المتعلقة بالفعل quot;الفاحشquot; أو quot;الفاضحquot;، تأخذ طريقها بوقار مصطنع، مصحوبة بالعقوبة، غير مبالية باحترام العوائل والأفراد، وحقهم في الحرية التي لا تسبب أذىً لأحد، والقانون لا يفسر لنا معنى الفضيحة، لأنه بكل بساطة يجيز الفضائح والإجرام في نصوص أخرى ويذهب إلى مديات مؤسفة، ففي الوقت الذي يغفل فظاعة جرم الإغتصاب، وما يخلّف في ضحاياه من آثار جسدية ونفسية، يقدّم مكافأة للجاني بإعفائه من العقوبة إذا ما عرض الزواج على المجني عليها، إنها وصفة سهلة لكل من يطارد امرأة لا تريده، فيلجأ إلى الإعتداء عليها كي يضمن وقوف عائلتها إلى جانبه، بإجبارها على الزواج منه، والمشرّع لا يقول لنا أي نوع من الزواج هذا وأي اغتصاب مستدام، وهذا بلا شك فضيحة قانونية.
وعكس ذلك تماماً حال مجتمعات الغرب، التي يحلو للكثير من المسلمين وصفها بالتحلل، تقوم العلاقة بين الزوجين على المودة، أوالرضا المتقابل في العيش سوية، وتعاقب قوانينها الأزواج إذا ما أجبروا شريكاتهم على معاشرتهم، ذلك إن من حق الزوجة رفع دعوى الإغتصاب ضد زوجها. هذه الميزة الإنسانية في العلاقة بين الزوجين في الغرب، محل تندر الكثيرين عندنا، الذين يتداولون مقولات فقهاء أقدمين ومحدثين، عن حديث يعتبرونه صحيحاً، مفاده وجوب مطاوعة الزوجة لزوجها إذا ما طلبها للفراش، حتى لو كانت على ظهر بعير، و حديث آخر يقول بأن الملائكة تلعنها إن هي رغبت عن معاشرته!!
كما إن مشرّعي دولنا الحديثة، الأوائل quot;أبدعواquot; في تبرير الجريمة وتسهيلها فجلبوا لنا نظرية العذر المخفف من قانون نابليون، ليستفيد منها الجناة من قاتلي محارمهم وزوجاتهم، وحتى بعد أن ألغاها القانون الفرنسي منذ عقود طويلة، مازال بعض عباقرة القانون لدينا، يحجمون عن اقتراح تغييرها، ولنتجاوز هنا القانون الجنائي التونسي لأنه ألغى هذا العذر، ولنقارن بين مشهدين لنعرف أيهما أوجب للإدانة، الأول لرجل يغرز خنجره بصدر ابنته أو أخته أو أمه، ثم يستله والدماء تقطر منه، ليخرج إلى الناس مزهواً بأنه غسل عاره، وينطلق لاحقاً إلى أقرب مركز للشرطة، معترفاً بفعله الشنيع، مطمئناً إلى أن أقصى عقوبة يمكن أن تناله قد لا تتجاوز أشهراً قليلة. المشهد الثاني لشابة ورفيقها، أو خطيبها، يتبادلان قبله عارضة في ركن منزو من حديقة عامة أو مقهى، أو حتى في سيارة بعيدة عن أعين الرقباء، ثم يفاجئهما رجل أمن فيستشيط غضباً ويطبق القانون الأعور بحقهما ليتسبب لعائلتيهما بإساءة فادحة لا مبرر لها. ولكل ذي إحساس بالعدالة،ما عدا مشرّعينا، أوجه السؤال، كيف تنظرون إلى الحالتين، وبخاصه لذلك القاتل المجرد من الإحساس بالقربى، المطفأ الضمير، المستهتر بسمعة عائلته؟
غريبة تلك المجتمعات التي ترمي المحبين بحجارة الموت، أو بغوائل الإزدراء والحسد، بينما تكافأ الجناة بالسماح والمغفرة، تخرّج رجال قانون ينتجون القسوة في نصوص معيبة، وتكرّم قاتل النفس التي حرّم الله قتلها، إلا قصاصاً عن قتل سابق، أو دفاعاً عن النفس.
التعليقات