كثيرة هي الملفات العالقة في ضمير معظم المثقفين والصحافيين العرب، من جهة العلاقة بالسلطة السياسية، أياً كانت، وقلّة قليلة منهم تجرأت على فتحها ومراجعة مضامينها، براءة للذمّة، أو لمجرد التحلي بشجاعة نقد الذات. ومن لم يجرأوا على التراجع الحميد عن مواقف سابقة أسهمت في تدهور الأوضاع العربية، ودعم الحكم الدكتاتوري، يراهنون على النسيان، وعلى شهرتهم الثقافية، كنوع من الحصانة إزاء أي دعوة للمحاسبة. لكن ما ولّدته حالة الإحتجاجات والثورات في أكثر من بلد عربي، من الإحساس بالكرامة الإنسانية، وما نتج عنها من انهيار البنى الحاكمة، خلق أجواءً مواتية للمكاشفة والمصارحة، بين الشعوب ونخبها الثقافية، على تنوع اهتماماتها، فمن كانوا يصنعون الوهم ويصيغون نظريات القيادة التاريخية، ويضفون على بعض الحكام صبغة ثقافية، أصبحوا في مواجهة جمهور يطالب بمحاسبتهم، وعلى سبيل المثال، فإن من جرفتهم تيّارات العنصرية والطائفية، خلال سنوات الحرب العراقية ndash; الإيرانية في الثمانينيات، وجدوا أنفسهم أمام عواقب انهيار العراق، كدولة ومجتمع، وتهيأت لهم فرصة تقليب دفاترهم، بعد سقوط جمهورية الخوف العابرة للحدود الإقليمية، التي كان يمثلها صدّام حسين، لكن أكثرهم لم يفعلوا. وعلى الضفّة الثانية، فإن من انبهروا بقيادة الثورة الأيرانية، وذهبوا بعيداً في تمجيدها، توفرت لديهم إمكانات المراجعة، والتأسيس الصحيح لتقييمها، بعد انتقالها من حالة التأييد الشعبي، الى دكتاتورية دينية مدمّرة. وفي هذا السياق تدخل مملكة القذّافي أيضاً، ومن سبّحوا بحمدها من جمهرة، ضمـّت مثقفين على اختلاف مشاربهم.
أنا لست ممن يقولون بأن التاريخ يعيد نفسه، لكني اعتبره شاهداً نرجع اليه، ليحدثنا عن من أسهموا في التأسيس لدكتاتوريات، وإغرائها بالدخول إلى عالم من جنون الإرتقاء على البشر، وفي نشر quot;ثقافةquot; البارود، التي عبّر عنها صدّام حسين، بقوله: quot;القلم والبندقية لهما فوهة واحدةquot;، والتي أفاضت شاعرة عربية، في شرحها، بكلمتها في مهرجان المربد السادس في العام 1985، بقولها: quot;الشاعر الذي نريد، عليه أن يكون كالجندي في جبهات القتال. كذلك القصائد التي غابت عنها رائحة البارود والدم فهي عفِنة، وكذلك فإن الشاعر المساوم هو جندي هارب من الجبهة، وعلينا أن نلاحقه ونحرق كل قصائدهquot;. ولبعض الشعراء والأدباء المتميزين بجودة نتاجاتهم، الذين شغلوا وجدان قرّائهم، وأثروا خيالهم، قصص كثيرة في ديوان حاكم العراق المباد، الذي حاز على جبال من المدائح، رفعته الى مقام الأنبياء، أولئك العشرة، الذين حضروا احتفالية المربد السادس، أبرقوا اليه، صادحين باسم جميع المشاركين: quot;لقد رأينا يا سيادة الرئيس كيف تقذفون بالحق على الباطل بكلمة laquo;لاraquo; فإذا هو زاهق. وكيف تُشمِّرون عن سواعدكم بكلمةنعم ،لإضاءة موطن المستقبل العربي. وليس لنا نحن الأدباء والشعراء العرب المشاركين في مهرجان المربد السادس إلا أن نتوضّأ بماء النصر الذي قدْتم العراق إليه، فحملتم به عبئاً عنا وقدَّمتموه لنا هدية، هي هدية التاريخ للأجيال القادمة ضوءاً وأمثولة وفداءquot;( مقالات ل نزار آغرلي، محمد حجيري، رحاب إبراهيم ، وغيرها، أشارت الى ورود نص هذه البرقية، في مؤلف الكاتب العراقي، عباس خضر، المعنون بـ: quot;الخاكّيةquot;، الصادر عن دار الجمل في العام 2005 ). تذكرت أيضاً شاعراً رقيقاً، جعل من قصائده زاداً لجمهور مملكة العشق، قال عن صدّام حين التقاه في بغداد، مامعناه، كنت خائفاً على مستقبل الأمة العربية، لكن نفسي طابت حين رأيتك!! عجبت حين ذلك، كيف يختلط ماء الشعر المغنى، بدماء الضحايا، وكيف يمتزج تغريد العاشقين بأصوات الطغاة الذبّاحين!!
كاتب وناقد معروف بدعوته في العام 1980، الى التأمل العميق والحر، في دراسة واقع الفكر العربي، وإلى quot;أن نرفع عن عيوننا الغشاوات القديمة وأن نكفّ عن الدوران في السواقي التقليدية الناضبة المياه، وأن ننظف تلافيف أذهاننا من عناكب الصيغ والمقولات التي امتصّت رحيق شبابنا،وأعقمت قدرتنا عن الخلق والإبتكار..quot;، كان قد فاجأ قراءه والمقدّرين لنتاجه الإبداعي، في العام نفسه، بإصداره كتاباً عن صدام، قال فيه: quot; نجم يشرق في بيوت من الطين... صدام هو الذي يقود قطار الثورة في العراق، ويعرف بعمق طرقها ومسالكها، وهو الذي اختاره ركاب القطار ليجلس في قمرة القيادة، لعلمه ونضاليته وإخلاصه، ولعلمهم إنه لن يتوقف بهم في منتصف الطريق .. وإنه يستطيع أن يتوجه بالمسيرة الى آفاق الحلم الذي نريده ..quot; ( تراجيديا ثلاثية المثقف والسلطة والمال- سعد هجرس- الحوار المتمدن).
بعد العراق، أتوقف عند المحطة الثانية من تراجيديا الثقافة، ليبيا ورجلها الغرائبي، الطالع من غياهب الرعب، وبين القذّافي وصدّام تفاوتت اجتهادات الفقيه الدكتور يوسف القرضاوي، فبينما دعا الى إعدام الأول، ترحم على الثاني وسمّاه شهيداً، هذه الإشارة ليست جملة إعتراضية، فالفقهاء شركاء للمثقفين في صناعة الوعي، ترشيداً أوتزييفاً. القذّافي الذي أهدر دمه الجميع، وقتل بطريقة يستحقها كل الطغاة، حظي هو أيضاً بمرتبة الإعجاب لدى الكثير من أهل الثقافة، وهذا ما كشف عنه كتاب:
quot;دراسات وأبحاث فى أدب معمر القذافىquot;، الصادر عن اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام فى ليبيا ، وتضمن شهادات عدد كبير من الأدباء العرب، برقّي الأسلوب الأدبي، الذي صاغ به القذافي مجموعته القصصية المعنونة بـquot;القرية القرية، الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاءquot; . وسأنقل للقارئات والقراء، مقاطع مدويّة من انبهار الكتاب بمفردات المجموعة، وخيال مؤلفها العابر للاّمعقول!!

quot;كانت دهشتى كبيرة وأنا أطالع مجموعة الأديب معمر القذافى القصصية، من عمق الطرح الفكرى وتصوير المعاناة الخاصة والعامة، وطول باع الكاتب فى ميدان الكتابة والمعالجة السياسية والأدبيةquot;
quot;إننا أمام نصوص أدبية رفيعة المستوى عالية القيمة، عميقة الدلالة على العوامل الوجدانية لصاحبها معمّر القذافى، متميزة بالرهافة والشفافية الشعريةquot;

quot;ينتمى كتاب القذافى إلى فن القصة، سرداً يعتمل فى خطابه من خلال تحفيز جمالى أو تأليفى يختزن الخبرة البشرية فى قصة فنيةquot;

في هذا الحشد من تدافع المديح، شارك كاتبان معروفان، تقلّدا منصبين، يتعلقان بالكتاب والكتاب، في بلديهما، قالا: quot;كل قصة كتبها القذافي تنّم عن نظرة عميقة في جوهر الحياة نفسهاquot;، quot;وجدت في قصص القذافي نفساً مغايراً، وجدت سخرية مرّة، وجدت معاناة عميقة من الداخل تهدف الى التغييرquot;.
ويتجاوز أحد هؤلاء الكتاب، كل الحدود، فيقول عن ممدوحه: quot;رأينا القذافي يستنهض الأموات من أجل شحن الأحياء الضعفاءquot; (المصدر : اليوم السابع ndash; بلال رمضان).
لن أتعبكم بنصوص أكثر، وأعيد التذكير بأولى طرائف القذافي، في كتابه الأخضر،حين اكتشف الفرق بين المرأة والرجل: quot; .. إذا كان كل واحد منهما ليس هو الآخر، إذاً هناك فرق طبيعي بين المرأة والرجل، والدليل وجود رجل وامرأة في الخليقة، المرأة أنثى والرجل ذكر، المرأة تحيض والرجل لا يحيض لكونه ذكراً... quot; .
وأذكّر أيضا بلا أدب صدّام، في قصته : quot;زبيبة والملكquot; وأسلوبه الملتبس، حين يتحدث عن العراق: quot;ما أكثر الغرائب والعجائب، بل والبطولات ، ومستوى الفعل العظيم، وحتى المعجزات في العراق، ألا تتسع الحياة لما هو مألوف وغير مألوف يسبقه؟ بل هل يمكن أن يكون لها عمق، ما لم يردف غير المألوف ما هو مألوف..quot;
وبعد فأنا التمس العذر من القارئات والقرّاء، لإغفال الأسماء، حتى لا يبدو المقال ذا صبغة شخصية، ولكون الموضوع يتعلق بالضمير أكثر من الأشخاص، وبالثقافة كقيمة سامية، وليس فقط بمن يتعاطونها في زمن معيّن.
في الختام أجد من واجب احترام الكلمة، أن أذكر مبادرة الصحافي والكاتب بكر عويضة، الذي فتح في مفكرة إيلاف، ملف المحاسبة ، بسؤاله: هل يتحمل أهل الإعلام بشكل عام جزءاً من مسؤولية الأوضاع العربية، بخاصة لجهة استمرار الدكتاتوريات أعواماً طويلة؟

[email protected]