لعل من تابعوا وقائع جلسة النطق بالحكم على الرئيس االمصري السابق، حسني مبارك، وقعوا في حيرة من أمر القاضي، المستشار أحمد رفعت، قاضي محكمة جنايات القاهرة، فقد خرج في استهلاله لقرار الحكم، عن مألوف التقاليد القضائية، وبدل أن يختصر ويقدم الأسباب الموجبة للحكم، ألقى خطاباً سياسياً، تحدث فيه عن الثورة وكأنه في ميدان التحرير وليس على منصة القضاء. وخشيت وأنا أستمع له أن تكون مفرداته الحماسية عربون اعتذار عمّا سيتضمنه قرار الحكم. ولنستعيد أقواله، لنتعرف إلى مواطن ضعف قراره ومجافاته للعدالة، ولطبيعة عمله كقاضي. مما ورد في ديباجته: quot; .. صباح الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير 2011، أطّل على مصر فجر يوم جديد لم تره من قبل، اشعته بيضاء حسناء، وضّاءة، تلوح لشعب مصر بأمل طال انتظاره، ليتحقق معه شعاع وضّاح وهواء نقي زالت عنه الشوائب العالقة فتنفس الشعب الذكي الصعداء، بعد .. ثلاثين عاماً أسود أسود، اسوداد ليل شتاء.. ومنذ ذلك الضياء وما تكبده المواطنون من ألم وحسرة وقهر، توجهوا الى ميدان التحرير بالقاهرة، مسالمين، مطالبين ب (عيش وحرية وعدالة اجتماعية) ضد من ارتكبوا الفساد وعميت قلوبهم وانطفأت مشاعرهم quot;. وأضاف بما يشبه الترتيل، بأن quot; الله أوحى لشعب مصر بتلك الثورة .. الثورة التي صاغها الله في قلب رجل واحد ..quot;. نعم لا اختلاف على هذا المنطق، فثورة مصر كانت مصدر إيحاء لكل الشعوب المقهورة في العالم، ولكن الإشادة بها ليس مكانها في المحكمة، ولا يجوز ان تجري على لسان قاضٍ عليه أن يفصل بين خصمين، ويقف منهما على مسافة واحدة، مهما كانت بشاعة موقف أحدهما، وأقصد مبارك ومن معه. لقد ارتكب المستشار رفعت خطأً مهنياً فادحاً بهذه quot;المرافعةquot; التي هي من شأن الإدعاء العام وليس من شأنه، ووضع نفسه في موقف لا يحسد عليه، بين لهجته المتماهية مع الثورة الى أقصى الحدود، وبين حكمه الصادم بالبراءة على نجلي مبارك، ومعاوني وزير الداخلية، بمن فيهم حسن عبد الرحمن، رئيس جهاز مباحث أمن الدولة.
وقبل المضي مع كلمات المستشار، استوقفني مشهد المحكوم مبارك، وهو يصر على وضعية الإستلقاء والتمارض، ويتجنب الحديث والدفاع عن نفسه، ويخشى النظر الى الناس، محتمياً بنظارته، فوجدت هذا الرجل بلا كرامة، ولاحياة، فلم يصدر عنه أي رد فعل طبيعي، ولا بادرة احتجاج، وهو يتلقى حكم السجن المؤبد، ولكنه معذور، لأن أغلب الطغاة والمعمّرين في السلطة، يصابون ببلادة الحسّ كلما بقوا في الحكم أطول مدة.
مما لاحظته على مقدمة القاضي، إنه لم يكن واضحا حين تحدث عن شهود الإثبات الذين قدمتهم النيابة، بالإضافة الى تشكيكه ببعضهم، في الوقت الذي أشاد بكبار مسؤولي الدولة، الذين استدعتهم المحكمة، وقال انه وجد في شهادتهم إحقاق الحق، وزوال الغموض. وهنا يتبادر سؤال مهم ألم يتولى هؤلاء الشهود الكبار مسؤوليات كبيرة تحت إمرة مبارك، فكيف يمكن رهن الحقيقة بما يقولون، فقط؟
ثم إن المستشار يؤكد على رحابة صدر المحكمة، وترحيبها بكل ماقاله الدفاع عن المتهمين quot; لن نغلق أمامهم أي طريق للدفاع، وأعطتهم المحكمة حقهم وأكثر..quot; لكنه لم يقل لنا كم أعطى من الوقت والإنتباه للمدّعين والشهود. وإذا كان جادّاً فعلاً في قوله بأنه انطلق في قرار حكمه، من واقع الإحساس بمعاناة المتظاهرين المسالمين، الذين ثاروا ضد المفسدين أملاً في تحقيق العدالة الإجتماعية، فكيف نستطيع أن نصدق حكمه ببراءة ثلاثة رموز للفساد، ولدا مبارك، وحسين سالم، وكيف نفى تهمة التربح غير المشروع عن مبارك؟
وإذا كان حبيب العادلي، وزير داخلية النظام السابق، يستحق الحكم المؤبد، فكيف يكون رئيس جهاز مباحثه بريئاً وكذلك المسؤولين الأمنيين الخمسة الآخرين الذين فازوا بحكم البراءة؟ ولمّا كانت الأدّلة الجنائية قد دمرت، وإن إدانة مبارك ووزيره قامت على أساس امتناعهما عمداً، عن حماية المتظاهرين، ومنع قتلهم، مع استطاعتهما ذلك، فلماذا لم توجه التهمة نفسها الى مساعدي وزير الداخلية، وهم الأدوات المكلفة بتنفيذ أعمال القمع، وهم أيضا من شغلوا مناصب تكفل لهم منع العنف، إن هم أرادوا، ولماذا لم يصدر القاضي قراراً بمتابعة جريمة تدمير الأدّلة الجرمية أو تزويرها، أليست هذه مهمة لصيقة بالدعوى؟
هناك من القانونيين من يرى إن الخلل في الحكم مرده الى فساد التكييف القانوني للائحة الإتّهام، وإنه ما كان ينبغي أن تقتصر التهم الموجهة الى مبارك وأعوانه على قتل المتظاهرين فقط، وإنما على الجرائم الكثيرة التي ارتكبت في عهده.
وبشكل عام فإن حكم القضاء بحق الرئيس السابق ووزيره، لم يرض نسبة عالية من الشعب، لكنه في القانون المصري، وفي بعض القوانين الأخرى، وارد لعقاب القتلة من المجرمين، الى جانب حكم الإعدام، مع سلطة تقديرية للقاضي، باختيار العقوبة الأدنى أو الأشّد، المهم إنه أطلق عاصفة الثورة من جديد، لأن أحكام البراءة المرافقة، نفت عن عهد مبارك صفة الفساد والإثراء غير المشروع لأركان نظامه وعائلته، بالطبع لا ننسى إن هناك فرصاً لتصحيح الحكم بطريق النقض، وقد طعن به النائب العام، وأمر بالبدء بالإجراءات اللازمة، لكن الثوار دائما لا يستأذنون من المنطق، بل يستعجلون الوقائع، حتى وإن كانوا لا يملكون مقومات إدارة الثورة بما يحقق أهدافها، كما أن مرشحي الرئاسة، الذين لم يفوزا في الإنتخابات، من مصلحتهم إثارة الشارع، سواء بسبب حكم المحكمة، أو بسبب طموحهم الى السلطة
اليوم يقول لنا ميدان التحرير، إن هناك حلولاً كثيرة لمأزق العدالة والرئاسة، وبالتأكيد هناك حاجة كبيرة للإصغاء لصوت المحتجين، فلنتوقف مع مطالبهم المسطرة في بيان أعده كل من: التحالف الإشتراكي، حزب الوسط، حزب الكرامة، إئتلاف شباب الثورة، حركة 6 إبريل، وغيرهم، فماذا يقولون؟
أولاً: أن يحاكم الرئيس المخلوع، مرة ثانية، أمام محكمة ثورية مدنية، تُستحدث بقانون خاص يصدره مجلس الشعب.
ثانياً: تطبيق قانون العزل السياسي، بما يفضي الى إلغاء الجولة الثانية من الإنتخابات الرئاسية، في حالة صدور قرار من المحكمة الدستورية بعزل المرشح، الفريق أحمد شفيق، ما يعني إلغاء أصوات بضعة ملايين، ممن صوتوا له، وإعادة الإنتخابات بشكل عام.
ثالثأً: تشكيل مجلس رئاسي يدير البلاد لفترة انتقالية، بعضوية المرشحين، الذين فازوا بأعلى الأصوات.
إن طريق الثورة لا يؤدي دائماً الى ما يبتغيه الثوار من تحقيق العدالة، وقد ينساقون دون انتباه الى اتخاذ مواقف، يصبحون هم ضحاياها في المستقبل، وهذا يتضح في مطلب المحكمة الثورية، ألم يستعمل الطغاة الذين استلموا الحكم بعد ثورات شعبية أو انقلابات، سلاح هذة المحكمة في تصفية خصومهم، بل شركائهم في الثورة؟ ولنا في محكمة الثورة في إيران ورئيسها خلخالي الذي اعترف أثناء مرضه بتصفية الآلاف من الأبرياء، مثال صادم بقدرة الثورة على تدمير الحياة السياسية، وكذلك مافعله عبد الناصر والسادات، بخصومهما، مروراً بمحاكم صدّام حسين و معمرالقذّافي، وغيرهم. والمحكمة الثورية لا تستند إلا لقانونها الخاص، وهي في حالة مصر الآن أكبر هدية يمكن أن تقدم للإخوان المسلمين والسلفيين، الذين يسيطرون على البرلمان بمجلسيه، والذين هم متعطشون لمعاقبة كل من يخرج على قوالبهم الدينية.
وفيما يتعلق بقانون العزل السياسي، فالملاحظ إن مجلس الشعب تأخر كثيراً في إصداره الى حين ترشح اللواء عمر سليمان، أي إن مادعاه الى تشريعه لا يخص صفة اللواء كركن أساسي من أركان النظام السابق، ورئيس للمخابرات في عهده، وإنما الخوف من أن يكسب أصوات فئات كثيرة من الشعب المصري، تنظر بريبة إلى مساعي الإخوان المسلمين للإستئثار بالسلطة التنفيذية، والرئاسة، إضافة الى تربعهم على رأس السلطة التشريعية، بمعنى إن القضية ليست مبدأية، أخلاقية، وإنما من باب المصلحة السياسية الحزبية. وهنا من المفيد التذكير بما قاله الفريق أحمد شفيق عن الإخوان، بعد أن اتهموه بأنه سيحذف مادة القرآن الكريم من المناهج، وإنه سيعيد إنتاج النظام السابق، ففي ردّه عليهم، قال: ألإخوان هم النظام السابق، تعايشوا معه، وعقدوا اتفاقاً معه في انتخابات العام 2005، كان مهندسوه المرشد عاكف، ونائبيه حبيب والشاطر، وانصب الإتفاق على ثمانين نائباً للإخوان، ثم زادت الحصة الى ثمانية وثمانين. ويضيف شفيق بأن الإنتخابات اللاحقة في 2010، شهدت صفقة أخرى بين المرشد الحالى لجماعة الإخوان، محمد بديع، والكتاتني ، رئيس مجلس النواب، بالإضافة الى مرسي العيّاض، من جهة، وبين حسن عبد الرحمن، رئيس جهاز مباحث أمن الدولة، من جهة أخرى. وزاد شفيق، بأن أعاد التذكير بوعود الإخوان للنظام بأنهم لن يترشحوا إلا بنسبة ثلاثين في المئة، وإنهم لن يقربوا الدوائر الإنتخابية التي يحتلها رموز النظام.
المطلب الثالث للثوار، تشكيل مجلس رئاسي انتقالي، وهو يعني تجاهل أصوات الملايين الذين ساهموا في العملية الإنتخابية، التي لا تعطي ضماناً مسبقاً بالفوز لأي مرشح، وبالتالي فليس من حق الذين لم يحالفهم الحظ أو الظروف أن يعترضوا على نتائجها، إلا إذا شابها التزوير، وهذا ما لم يثبت. إن فكرة مجلس رئاسي يضم مرسي وصباحي وأبي الفتوح، لايقدم حلا للأزمة السياسية، بل يزيدها تعقيداً، فمن الذي يشكله، ومن يوافق عليه، ومن يحدد صلاحياته، وكيف سيتفق أعضاؤه على أسلوب الحكم. وبشكل عام فإنه لا يستند الى مبدأ دستوري ويتعارض مع التوجه الديمقراطي، لأن من شأنه إلغاء نتيجة الإنتخابات، واعتماد التعيين والتوافقات السياسية. وكان المجلس العسكري قد رفض فكرة هذا المجلس وقرر المضي في إجراء الجولة الثانية من الإنتخابات الرئاسية في موعدها المقرر، بالإتفاق مع ممثلي ثمانية عشر حزب سياسي، لم يكن من بينها حزب الحرية والعدالة، الوسط، العمل والمصريون الأحرار.كما أعلن إنه سيضطر الى إصدار إعلان دستوري مكمل، يحدد فيه معايير تشكيل اللجنة التأسيسية التي ستضع دستور البلاد، إذا لم تتفق الأحزاب الممثلة في البرلمان على هذه المعايير، داعياً إياها الى أجتماع يوم الخميس ( السابع من حزيران). ويفترض بهذا الإعلان أن يحدد أيضاً صلاحيات الرئيس.
باعتقادي إن الإعلان الدستوري له ما يبرره، بخاصة وإن الإخوان تعمدوا تأخير تشكيل اللجنة التأسيسية، متوقعين أن يفوزا بالرئاسة، وبالتالي ينظروا في صلاحيات الرئيس، من خلال دستور تضعه لجنة يملكون فيها الأغلبية. وكان رئيس مجلس الشعب، الكتاتني قد توعد بأن البرلمان لن يفرّط بمهمته التشريعية، وإنه لايمكن النيل من المجلس، سواء بإعلان دستوري أو بغيره.
بنتيجة كل ما تقدم، فإن المجلس العسكري والإخوان في حالة تماس تنذر بمواجهة صعبة، وثوار التحرير غاضبون من نقص عدالة المحكمة، وهذا حقهم، بينما يقف مرشحو الرئاسة الخاسرين في موقف التحريض على استمرار الثورة، وكما قال الصحافي خالد صلاح، رئيس تحرير اليوم السابع، فإن مصر تريد حلولاً عادلة وعادية وطبيعية، بينما الذين يتحدثون باسمها، يريدون حلولاً سحرية.
في الجزء الثاني من هذا المقال سأتطرق الى الإعلان الدستوري الأول، والمكمل المقترح، إذا ما صدر فعلاً.
[email protected]