مرت ذكرى عاشوراء بسلام على العراقيين، ونجحت إجراءات الأمن في وقايتهم من أعمال الإرهاب المعتادة التي تستهدف جموع الزائرين لمرقد الإمام الحسين في كربلاء. وللمرة الأولى بعد سقوط النظام السابق، عبّر الناس عن انقطاع صبرهم، وامتزجت مشاعر حزنهم على الإمام الشهيد، بالغضب على الحكام الفاسدين، فصدحت حناجر الشباب في العباسية من كربلاء بالهتاف ضد الحكومة { يا سياسي افهم شعبنا، من أبي الهمّة تعلم، لا تنام عينه على الذل، من يظلمه يندم، أنظر إلى غيرك وخذ العبرة، حين انتهى إلى الحفرة (الإشارة إلى صدّام)، نقول يا حسين الحقيقة، أنت نور الله وطريقه }، إلى جانب هذا، رفعت مجموعة من الغاضبين لافتة كتب عليها: { ثورة الحسين صرخة بوجه سرّاق المال العام}. لقد كان العزاء الحسيني عبر التاريخ مناسبة يتحرر فيها العراقيون من خوفهم، ويستمدون العزيمة من مثال الحسين في رفضه تجرّع الذل والإنصياع لأرادة الطغاة، ومازالت هتافات الإحتجاج، منذ بدايات القرن الماضي، ضد بعض السياسيين، حاضرة في ذهن الناس، وهذا ماتنبه له النظام السابق، فأقدم على منع إحياء ذكرى مقتل الحسين، بل ومنع حتى توزيع الطعام على الفقراء ترحماً على روح الإمام.
وفي موازات حزن محبي الحسين في المشرق العربي، نجد الكثير من المسلمين يصومون في يوم عاشوراء، ويشكرون الله، إتّباعاً للرواية التي تقول بأن الرسول (ص)، قدم إلى المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عن سبب صيامهم فقالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى من فرعون فنحن نصومه شكراً، فقال: نحن أولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه.
ونظراً لاختلاف الحالتين، أعني الحزن والشكر، فإن يوم عاشوراء كان دائماً موضوعاً لإشكالية قديمة بين المسلمين، تتجدد في كل عام، ذهب أصحابها الأصليون، وبقينا نحاور التاريخ أو نتبع رواياته دون تمحيص، فيتعصب الكثيرون منا ولا يجيدون لغة للتفاهم، ولا يستندون إلى العلم، وسياقات الخلافات التاريخية والمصالح السياسية للحكام الذين ملكوا أمور المسلمين.
وأجد في هذه المناسبة أن من الطريف أن أروي مفارقة حدثت لصديقة لي، كانت متحيرة بين هاتفين، أحدهما من زميلة لها في العمل، تدعوها لأمسية إفطار، بما أنها وصاحباتها صائمات، شاكرات. الهاتف الثاني من صديقة تدعوها للمشاركة في مجلس حسيني مصغّر، تجتمع فيه نسوة يتلون بعض آيات القرآنـ وتقرأ عليهن إحدى السيدات رواية عن مقتل الحسين، ثم يختمن بالدعاء. قلت لها وما المشكلة، إذهبي وافطري مع زميلتك، واغتبطي بنجاة النبي موسى، أيّاً كان تاريخ النجاة، وفي اليوم التالي شاركي صديقتك مجلسها، واغسلي أحزانك العراقية بدموع من أجل الحسين ومئات الألوف من أهل العراق، الذين قتاواومازال حكامهم يعيدون إنتاج المأساة كل على هواه. وحبذا لو تجمعين الإثنتين لتتبادلا حديث التاريخ بغثه وسمينه، علّهما تتوفقان إلى مشترك ما بين الشكر والحزن، وتكتشفان أموراً تتعلق بالتقويم الشمسي الذي كان متبعاً في عهد النبي موسى، وخلافه التقويم القمري الذي يتبعه المسلمون، وهذان لا يتفقان إلا ما ندر، وحسبك تعلمين كم هي خلافات المسلمين بشأن هلال رمضان والعيد، فكيف للشمس إذاً أن تتفق مع القمر!! وما دامت زميلتك وصديقتك مثقفتان كما تقولين، فانهما لابد مدركتان بأن النبي المصطفى (ص) قد أفاض الله عليه بعلوم كثيرة، منها تاريخ أهل الكتاب.
في مقال للكاتب عاطف آل غانم، يناقش جانب الشكر في يوم عاشوراء، ويتساءل: لماذا لا يصوم المسلمون في ذكرى نجاة الرسول محمد (ص) من سيوف المشركين، يوم قرروا اغتياله، فنام أبن عمه علي بن أبي طالب مكانه؟ ولماذا لا يصومون يوم نجّا الله خليله أبو الأنبياء إبراهيم من نار النمرود؟ وكذا الحال حين رفع الله نبيه عيسى المسيح، إلى السماء،- كما يعتقدون- لماذا لا يصومون شكراً لله؟ أليس كل أولئك أنبياء؟ (انتهى رأي الكاتب) .
ليس في الأمر جديد فالمسلمون دائماً مختلفون، المهم أن يكتسب الخلاف طابعاً حضارياً، ويزدان بالرغبة في المعرفة، ويتحرر من آلية النقل السقيمة. أن نناقش التاريخ ليس خطأً، ولكن حين نتلبس بأشخاصه ونتحزب
لهم كما لو كانوا بعض عائلتنا الأقربين، فإن ذلك لا يساعدنا على التماس الحكم الصحيح. وفي رأيي إن الحزن على الحسين أمر لا ينبغي أن يثير حفيظة أحد، بخاصة وإنه لم يكن معتدياً أو ساعياً لسلطة، وإنما راغباً في الإصلاح ومستجيباً لمن دعوه لرفع الظلم عنهم. كما أن مسيرته إلى العراق جاءت في سياق تاريخي كان مفعماً بمشاعر الغضب ضد سياسة الأمويين، التي حادت عن الخلافة الراشدة، واتجهت نحو الإستبداد والغلظة في التعامل مع الناس، فما أن قتل الحسين في العام 61 للهجرة، حتى انتفض عبد الله بن الزبير، حفيد أبي بكر الصديق، في مكة، وكان مثل الحسين رافضاً لمبايعة يزيد بن معاوية، ولم يتسن لقوات الأمويين القضاء عليه إلا في العام 73 للهجرة، في عهد عبد الملك بن مروان، وعلى يد الحجاج بن يوسف الثقفي ألذي قصف الكعبة بالمنجنيق، وصلب عبد الله وتركه معلقاً لفترة طويلة. وكان أهل المدينة من المهاجرين والأنصار قد سبقوا الزبير في الثورة على يزيد، ما دعاه إلى التنكيل بهم واستباحة بيوتهم لثلاثة أيام ارتكب خلالها جنده كل المحرمات من قتل واغتصاب ونهب. أصل مما تقدم إلى أن ماحلّ بالإمام الحسين من مأساة، كانت ترجمة لنهج من الطغيان والقهر، انتهجه الأمويون ضد معارضيهم، لكن المبالغة في الحزن عليه وجلد الذات، يوقع محبيه بمزايدات تجرد حركته من معانيها السامية، فالمظاهر العنيفة في التعبير عن الألم كضرب الرؤوس وإدماء الظهور بالسلاسل، لا تسمو بذكرى استشهاد الحسين، كما لا تجعل القائمين بها أكثر تقوى أو إيماناً بعدالة قضيته، من علماء أجّلاء كمحسن الأمين، على سبيل المثال، الذي كان قد تنبه إلى أهمية إصلاح الخلل المتراكم في منظومة العزاء الحسيني فيما يتعلق ببعض الروايات المتداولة شعبياً، وضرب الرؤوس بالمدي والسيوف، وغيرها من مظاهر تفرغ المناسبة الأليمة من محتواها الإنساني، وتفقدها ترابطها العضوي بالحركات الثورية المعاصرة لها، ضد الحكام الطغاة.
لقد تحمل العلماء المصلحون من أمثال الأمين وفضل الله، الكثير من الإساءة حتى من بعض زملائهم، لمجرد أنهم طالبوا بنبذ المألوف القائم على الجهل. وفي رأيي أن ما يمنع من إصلاح منظومة العزاء الحسيني وترشيدها، عوامل كثيرة منها: العاطفة الشعبية الجارفة، والعدد الهائل من المعتاشين على طقوس العزاء كما هي الآن، استفادة الأحزاب الدينية من مواكب العزاء التي تعد بمئات الألوف، وتجييرها لها كعناصر قوة، ويمكن أضافة عامل مهم هو ارتياح المرجعيات الكبيرة لطقوس العزاء الحالية باعتبارها رمزاً لهيبتها الدينية. إن الكثير من العراقيين، شيعة وسنة، يحبون الحسين، لكن القليل من الشيعة من أصحاب النفوذ هم من يستفيدون من مواسم الحزن عليه، ويحولونها إلى فوائد ومغانم، فللناس الدموع وحرية الهتاف والتوجع، ولهم ترف النظر الى شعبهم من بعيد، والحديث عن المبادئ من فوق المنابر، هم لاينزلون إلى شوارعهم حين تغرق بالأمطار، ويحتمون ببيوتهم العامرة حين تغطي العواصف سماء بغداد ومدن الجنوب. رحم الله شاعر العراق والعرب، محمد مهدي الجواهري، حين قال في قصيدته الساخرة، تنويمة الجياع (1951):
نامي جياع الشعب نامي* * حرستك آلهة الطعامِ
...
نامي على تلك العِظات * * الغُرِّ من ذاك الإمامِ
يوصيك أن تدعي المباهج * * واللذائِذَ للِئامِ
وتعوضي عن كل ذلك * * بالسجود وبالقيامِ
...
نامي على المستنقعات ** تموج بالُلجج الطوامي
...
نامي على زبد الوعود ** يُداف في عسل الكلامِ
...
نامي فقد أضفى العراء * * عليك أثواب الغرامِ
...
نامي فإن صلاح أمر فاسد ** في أن تنامي

[email protected]