في المقال الأول استعرضنا بإيجاز نظرية باتريك سيل عما يجري في المنطقة، وخصوصا موقفه من النظامين السوري والإيراني وتوابعهما.
هذه النظرية تتلخص في وجود مؤامرة إسرائيلية ndash; أميركية لذبح قوى quot; الممانعةquot;، المتمثلة في الأطراف مارة الذكر. وفي مقالاته الأخيرة راح الكاتب يدافع باستماتة عن المشروع النووي الإيراني، الذي تتهمه وكالة الطاقة النووية بالبعد العسكري، مدعيا أن لإيران حق التخصيب على أراضيها لأسباب طبية، منها معالجة مليون مصاب بالسرطان! وأما الانتفاضة السورية، فهي مؤامرة طائفية لا غير.
وفي مقاله الأخير، يضيف القومية الكردية- الموزعة على دول المنطقة- لمحور المؤامرة، متهما إياها quot;باستغلال الوضع لإعلان الاستقلالquot;*، ومتهما حكومة كردستان العراق بالتواطؤ مع إسرائيل ضد نظام الفقيه. أما أسانيد الكاتب الموقر، فهي عبارة quot; يقالquot; وquot;يقالquot;: مثلا:
quot; ويقال إن الطائرات الإسرائيلية من دون طيار تعمل ضد إيران من خلال قواعد موجودة داخل المنطقة الكردية. كما يقال إن جهاز الموساد أجرى عمليات استخبارية عبر حدود المنطقة الكردية ضد منشآت إيران النوويةquot;! وهكذا، يذكرنا الكاتب بمحمد حسنين هيكل وquot;ومعلوماتهquot; وحكاياته، التي تبين على مدى عقود أن معظمها غير صحيح. وكيف يعرض باتريك سيل نفسه ككاتب موضوعي عندما يستند للأقاويل، ومن دون سند وتمحيص!- وعلما بأن لأطراف كردية عراقية ذات نفوذ كبير علاقات قوية مع نظام الفقيه ولا يمكن لها أن تسمح بمثل النشاطات التي تتحدث عنها الإشاعات. على كل هذا موضوع آخر قد نعود إليه في مناسبة أخرى.
إذن، فالنظامان السوري والإيراني ضحيتا مؤامرة واسعة تقودها إسرائيل وأميركا الحزب الجمهوري؛ فلا نحر 40000 سوري، ولا تدخل إيران في طول المنطقة وعرضها وفي أفريقيا وأميركا اللاتينية، واستعراضاتها العسكرية المستمرة في مضيق هرمز، ودعم طالبان والتعاون مع القاعدة، ومشروعها النووي، ولا غير هذا وذاك، يمكن أن يقنع أمثال سيل بأن الحقيقة هي غير ما يردده باستمرار وتكرار. وفي مقال عن أسباب quot;كره العرب والمسلمين لأميركاquot;، يتقدم لنا الكاتب بتخريجات جديدة منها أن من الأسباب تحرير الكويت من الغزو الصدامي، مع أن تلك الحرب كانت بقرار دولي وبمشاركة دولية وعربية لتحرير بلد عربي صغير من عدوان الجار.
الكاتب يعزف على الوتر الحساس عند عرب المزايدة باسم فلسطين وquot;الممانعةquot; وquot; لا للتطبيعquot;، فيعزف لهم النغمة الأثيرة عندهم. ونعرف أنه ما أن تذكر فلسطين وإسرائيل حتى تتوارى قضايا الحرية والديمقراطية والإصلاح والشفافية والعدالة، لتصبح التجارة باسم القضية المقدسة شفيعا لكل مستبد وظالم وتوسعي، ولكل مخرب وإرهابي. وهي محنة تعيشها شعوبنا منذ الثلاثينات، وخاصة منذ قيام إسرائيل.
الكاتب يتناسى حقيقة كبرى أخرى حين يتحدث عن مؤامرة إسرائيلية ضد نظام الأسد، ألا وهي أن إسرائيل كانت مرتاحة على مدى العقود الماضية من التزام النظام السوري بشروط هدنة الجولان، وحيث لم تطلق رصاصة واحدة من تلك الجبهة. وما حدث قبل شهور قلائل بزج فلسطينيين لتجاوز الخطوط توقف حالا بعد التضحية بتلك المجموعة من الفلسطينيين، لان النظام السوري يعرف أن عملا حربيا جديا لن يكون بلا ردع تدميري قاصم هو في غنى عنه.
يبقى الحديث عن البعد الطائفي في الحالة السورية**. وكما قلنا في المقال الأول، فإن بعدا كهذا موجود بلا شك، [ ربما سيقوى مع الأسف]، ولكنه ليس العنصر الأكبر في الحالة. فالعنصر الأكبر سياسي، وأقصد الصراع السياسي في منطقة نفطية حساسة بين المحور التركي- الخليجي، بدعم غربي فاتر، وبين المحور الإيراني- العراقي ومن يتبعه- كحزب الله.
باتريك سيل يرى أن الصفقة التي يعد بها أوباما مع إيران لن تمر بسبب ضغوط quot; حزب الحربquot; الأميركي ومتطرفي إسرائيل. والصفقة التي يجري الحديث عنها منذ أسابيع يخمن أنها اعتراف أميركي بدور إيران الكبير في المنطقة وإقامة علاقات دبلوماسية ورفع العقوبات مقابل التخلي عن البعد النووي العسكري. ويأتي تعيين كيري، الذي هو من أقوى دعاة التفاوض الأحادي مع إيران وضد استخدام القوة، ليعزز من حديث الصفقة. والأبرز من الأحداث هو تصميم أوباما على تعيين الجمهوري السابق هيغ وزيرا للدفاع، وهو من أكثر الساسة الأميركيين دعوة وحماسا للتفاوض مع إيران ورفض الردع العسكري، علما بأن الإعلام العربي لا يبرز من قضية هيغ غير كون إسرائيل غير مرتاحة منه، وكأن موقف إسرائيل السلبي منه يكفي لكي نرحب من جانبنا بهذا الهيغ، رغم أنه سيكون مظلة لسياسة نظام الفقيه ونهجه العدواني الذي يهدد العرب، والخليجيين خاصة، أكثر مما يهدد إسرائيل. ولكن عرب الأنظمة ماضون في هوس المزايدة باسم فلسطين مع أن الكثيرين منهم يشكون الخطر الإيراني في اتصالاتهم الجانبية بدول الغرب. ويصل الخليجيون اليوم إلى حد ترك الأردن هدفا لمحاولات التسرب والمناورات الإيرانية لاستغلال أزمة المحروقات لتقديم عروض مساعدة مغرية [مسمومة طبعا لأغراض التدخل ولحمل الأردن على وقف مساعدتها للاجئين السوريين والمنشقين].، ويندفع المالكي- غير المعروف عنه بالتعاطف مع النظام الأردني، ـ فيتقدم بعرض نفطي مغر للأردن نيابة عن إيران. وقد أحسن الكاتب الفلسطيني خالد الحروب في مقاله الأخير[ الحياة] الذي ينتقد فيه موقف دول الخليج السلبي من الأردن وتركه وحيدا أمام المغريات الإيرانية، مع أن مجلس التعاون أصدر للتو قرارات منها ما يدين التدخل الإيراني. ولكنها السياسات العربية المتناقضة والملتوية والمزدوجة، والتي منها ما يقود حتما لتقوية قوى التطرف والعدوان في المنطقة، [ أنا بيدي حرقت يدي!!]

[* من حق الأمة الكردية التي يتجاوز عدد أفرادها ال 30 مليونا تأسيس كيان مستقل لها في يوم من الأيام، وإذا كان ذلك من مصلحة الأكراد وامن المنطقة ومصالح المجموع. ولكن من الناحية العملية والسياسة اليومية، فإن لكل جزء من هذه القومية ظروفه الخاصة ومطالبه الخاصة التي لا تصل للانفصال، الذي ليس اليوم لصالح الجميع. وكم كان حصيفا وواجبا من قوى المعارضة المدنية السورية لو أعلنت اعترافا رسميا واضحا بحقوق أكراد سورية. إن باتريك سيل في اتهامه للقومية الكردية يعزف على الوتر العنصري الشوفيني عند العرب.
** لست اختصاصيا في شؤون المذاهب والأديان، ولكنني كنت أعرف أنه لا شيعة العراق الإثني عشرية الإمامية ولا شيعة إيران كانوا يعتبرون العلويين من شيعتهم؟!]