لا وجود لانتخابات من اجل الانتخابات. في البلدان الراقية التي تكرّست فيها الديموقراطية بعد ممارسة امتدت عقودا، بل قرونا، كما الحال في بريطانيا، تلعب الانتخابات دورا في عملية التبادل السلمي للسلطة بين احزاب تمتلك برامج سياسية واقتصادية، وذلك في ظل نظام ملكي.
فضلا عن ذلك، تلعب الانتخابات دورا في عملية تجديد الطقم السياسي بديلا من بقاء طقم معيّن في السلطة الى ما لا نهاية كما حصل في سوريا، التي تسمّي نفسها جمهورية، حيث حكم حافظ الاسد عن طريق الاجهزة الامنية طوال ثلاثين عاما. استطاع الاسد الاب قبل وفاته وبعدها، مستخدما الاجهزة الامنية ولا شيء آخر غير ذلك، ضمان انتقال السلطة الى نجله بشّار لمجرّد أن العائلة كانت في حاجة الى ذلك.
لا يزال بشّار الاسد متمسكا بالسلطة المطلقة، على الرغم من أنّ سوريا جمهورية وعلى الرغم من سقوط عشرات الآلاف من ابناء الشعب قتلى. سقط هؤلاء على يد القوات التابعة للنظام والتي مهمتها الاساسية، اصلا، حماية المواطن وليس قتله!
هناك جمهوريات معادية للديموقراطية وهناك انظمة ملكية راعية للديموقراطية ومروّجة لها. ففي بلد مثل اسبانيا، تحوّلت الديموقراطية الى توأم للملكية. هنا، الديموقراطية والملكية توأمان. لم تعد الديموقراطية الى اسبانيا الاّ مع عودة الملكية. هناك ديكتاتور اسمه الجنرال فرانكو، وجد أن لا مستقبل لاسبانيا من دون ديموقراطية برعاية ملكية تكون مرجعية للمؤسسات ورمزا لوحدة البلد الذي عانى ولا يزال يعاني من تعقيدات داخلية. قرّر فرانكو بكل بساطة تسليم السلطة الى الملك خوان كارلوس نظرا الى حرصه على اسبانيا. حصل ذلك بمجرد انتقال فرانكو الى العالم الآخر في العام 1975. تولى الملك تنظيم الحياة السياسية في البلد وجعل من اسبانيا دولة ديموقراطية!
ثمة امثلة كثيرة يمكن ان تساق عن بلدان ديموقراطية...بفضل الملكية. ثمة امثلة عن عجز بلدان عربية على تطوير نفسها في غياب الملكية، بالمفهوم العصري للكلمة طبعا. على سبيل المثال وليس الحصر، يمكن القول أن العراق لم ير يوما ابيض منذ انقلاب 14 تموز- يوليو 1958 والقضاء بطريقة وحشية على العائلة المالكة التي كانت تعمل على تطوير النظام الديموقراطي في البلد. وما ينطبق على العراق، ينطبق على ليبيا التي يُخشى ان تنتهي دولة فاشلة بسبب سقوط النظام الملكي على يد مجموعة من العسكريين كانوا يعتبرون جنال عبدالناصر مثلهم الاعلى وذلك على الرغم من انهم قاموا بانقلابهم في العام 1969، اي بعد عامين على هزيمة 1967 التي تولى ناصر الاعداد لها بفضل ثقافته المتواضعة وابتعاده عن كلّ ما له علاقة بالقيم الديموقراطية.
اكثر من ذلك، لم يستوعب ناصر ورفاقه حجم الكارثة التي حلّت بمصر بسبب الانتهاء من النظام الملكي في العام 1952. أنها كارثة تكبر يوما بعد يوم، وستتضخم مع وصول الاخوان المسلمين الى السلطة، بفضل المناورات السياسية وتعبئة الشارع دينيا وهبوط مستوى التعليم وانتشار الجهل، وليس بفضل صناديق الاقتراع كما يدّعي هؤلاء...
كان لا بدّ من هذه المقدمة الطويلة للاشارة الى الدور الذي لعبه ملوك وامراء وشيوخ في مجال تطوير الحياة السياسية في بعض البلدان العربية. هل يمكن تصوّر ما كان سيحل بالمغرب لولا الملك الحسن الثاني، رحمه الله، الذي تعرّض لمحاولتين انقلابيتين، ولولا الملك محمد السادس الذي اشرف على عملية تطوير الحياة السياسية في البلد في اتجاه تحمّل الاحزاب السياسية مسؤولياتها كاملة؟
هل يمكن تصوّر ما كان سيحل بالكويت لولا العائلة الحاكمة التي استطاعت لعب الدور الاساسي في عملية تحرير البلد من الاحتلال العراقي...من دون ان يمنعها ذلك من الاصرار على تطوير الحياة السياسية في ظروف غير ملائمة، خصوصا بعد هبوط مستوى الخطاب السياسي في البلد الى حد كبير؟
لدى الحديث عن دور ملوك وامراء وشيوخ في تطوير بلدان عربية، لا يمكن الاّ ذكر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي استطاع بفضل حكمته وذكائه الحاد وتسامحه وبعد نظره بناء دولة عصرية وتحقيق انجاز اسمه دولة الامارات العربية المتحدة. لا تزال الامارات تشكل نموذجا للتفاعل اليومي بين السلطة والمواطن ولأيّ وحدة، بالمفهوم الحضاري والعلمي للكلمة، بين مجموعة من الكيانات العربية.
لا تحيد الاردن الفقيرة بالثروات عن هذا التوجه الملكي نحو الديموقراطية. الانتخابات التي تجري فيها يوم الثالث والعشرين من كانون الثاني- يناير الجاري، خطوة على طريق تطوير النظام السياسي في المملكة. هذا النظام السياسي القائم على المؤسسات اوّلا هو الذي حمى الاردن منذ كانت امارة. حماها من المزايدات والشعارات والغدر في العام 1967 وحماها من اليسار الطفولي في العام 1970 حين اعتبر بعض الفلسطينيين أن طريق القدس تمرّ بعمّان...
هذا النظام نفسه، وضع اللبنة لقيام دولة فلسطينية مستقلة يوما وذلك عندما اتخذ الملك حسين، رحمه الله، قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية في العام 1988، وذلك بهدف حماية الاردنيين. أنه نظام يحمي الوطن الاردني من الباحثين عن شرعية غير موجودة خارج المؤسسات، شرعية لا يمكن أن تأتي بها المتاجرة بالدين والشعارات...
ستكون الانتخابات الاردنية التي اصرّ عليها الملك عبدالله الثاني نقطة تحول على صعيد متابعة بناء مؤسسات الدولة. وبين هذه المؤسسات مجلس النوّاب الذي سيتوجب عليه لعب دوره في اختيار رئيس الحكومة الجديد. هل من خطوة اهمّ من هذه الخطوة على طريق بناء مؤسسات لدولة حديثة فيها احزاب فاعلة قادرة على التنافس في ما بينها استنادا الى برامج واضحة...وعلى تعديل قانون الانتخاب المعمول في حال ارتأت ذلك ولكن من خلال مجلس النوّاب؟
ما نراه اليوم في الاردن هو ملك يقود التغيير والاصلاحات وذلك كي لا يأتي يوم يبكي فيه الاردنيون ندما على وطن يفكر فيه من على رأس الدولة في كيفية تحسين مستوى التعليم وتطوير الانسان والبحث عن بدائل من النفط والغاز...وبقاء المملكة ملاذا لكل عربي لم يعد يجد لنفسه مكانا في وطنه.
ألم تكن الاردن في يوم من الايام ملاذا للاخوان المسلمين لدى تعرّضهم للاضهاد في هذا البلد العربي او ذاك، خصوصا في مصر...ام ينطبق على الاخوان المثل الفرنسي القائل انّ هناك خدمات كبيرة الى درجة لا يمكن الردّ عليها الاّ بنكران الجميل؟