قد يكون نبأ إجلاء روسيا الاتحادية، الحليف الأهم والأكبر للنظام السوري لما يقرب من مئة مواطن روسي يقطنون في سوريا، عبر مطار بيروت الدولي، خبراً تباينت وجهات النظر في تقييمه وتحليل أبعاده.
فمهما اختلفنا في تقييم الحدث وتوقيته في ظل استمرار دوامة العنف حاصدة عشرات (وربما مئات) السوريين يومياً، فإن الحدث لا يمكن أن يمر مرور الكرام. فآلاف من السوريين ممن يمتلكون يحملون الجواز الروسي، فضلاً آلاف الروس من الخبراء العسكريين والمدنيين يقيمون منذ عشرات السنين بين ظهراني السوريين بحكم أواصر القربى الاجتماعية والسياسية، لكن سياسات الدب الروسي الذي يبدو أنه لم يصح بعد من سباته السياسي، ولم يدرك بعد حجم التغيرات الديمغرافية والاجتماعية التي رافقت حراك الثورات العربية، قد حولت وجود الروس في أماكن التوتر وغيرها في سوريا أمراً خطراً في حد ذاتها، في ظل استهداف مسبق للإيرانيين واللبنانيين على خلفية الحدث السوري.
اللافت في حيثيات خبر الإجلاء الروسي عن دمشق، أنه جاء عن طريق مطار بيروت، وليس دمشق، وهو ما يؤكد عدم سلامة الطريق إلى المطار رغم التأكيدات والتطمينات اليومية بخصوص الطريق إلى المطار، والذي تشتعل جنباته في الغوطة الشرقية.
أما دلالة الحدث البعيدة، فهي انعاكسها على بيروت، المدينة التي كانت حتى عهد قريب يحلم المواطن السوري بالإقامة فيها أو على الأقل، تمضية إجازته السنوية أو حتى الأسبوعية، بعد أن حولت سياسات الأنظمة المتتابعة على دمشق (رغم ندرتها بعد الستينات) quot;الرفاهيةquot; إلى مفهوم يوتوبيا لا مجال لتجسيده بالنسبة للمواطن السوري الغارق في تفاصيل ملاحقة لقمة العيش اليومية.
بيروت.. التي كانت تعج بأضواء الثراء والشهرة، لا تكاد تخطئ عينك تنامي الحضور السوري في شوارعها وجنباتها، في المناطق التي نزح إليها اللاجئون السوريون الذين تجاوز عددهم رسمياً المئتي ألف لاجئ، ناهيك عن عشرات ألوف اللاجئين غير المسجلين أو المعلنين، تحولت إلى مدينة سورية بامتياز، فما عاد العامل السوري البسيط يخشى المرور في أي شارع من طرقاتها، بل يكفيك أن ترقب مشهد صلاة الجمعة في أحد مساجدها لتلمح قسمات وجه السوريين ونبرة لهجتهم حيثما تلفت.
وبعد أن كانت بيروت حلم عائلات الطبقة الوسطى في سوريا، ومربض العائلات الثرية في المناسبات والعطل، ومأوئ بعض السياسيين المعارضين السوريين فيما مضى من سنوات، ها هي تتحول إلى واحدة من المدن التي يسكنها السوريون بكثافة محطمين كافة هالات الرهبة إزاءها، ومحولين المدينة التي كانت متنفس النظام السوري تجاه الليبرالية والانفتاح إلى كابوس حقيقي مع تكدس آلاف اللاجئين في جنباتها.
روسيا التي كانت تطمح إلى استعادة دورها العالمي انطلاقاً من الدور الإقليمي والمنطقة، وجدت نفسها كارهة مضطرة لإجلاء رعاياها من بيروت لا من دمشق، وعبر البر وصولاً إلى مطارها، لا عبر مطار دمشق أو ميناء طرطوس الذي ترابط فيه سفنها الحربية وجنودها المنخرطون في مناورات هي الأكبر من نوعها في تاريخها الحديث. فهل عجزت روسيا عن الطيران بمئة مواطن روسي إلى قاعدة طرطوس البحرية لتجليهم إلى موسكو عبر سفينة أو طائرة إلى مكان آخر؟ أم أن الزهو الروسي بالعودة إلى ريادة العالم عبر المياه الدافئة في البحر المتوسط والشرق الأوسط ومن بوابة دمشق تحديداً قد استحال خروجاً مذلاً ومهيناً، ورغبة في استجداء القريب والبعيد لتمرير دخول مواطنيها إلى بيروت وإجلائهم عبر مطارها إلى ديارهم؟!
لم تعد بيروت مدينة للرفاهية أو تمضية العطلات، بل تحولت أخيراً إلى مدينة شرق أوسطية تبدو عليها قسمات الأزمة السورية أكثر من غيرها، فيما تنتظر مساعدة العرب لإعانتها على احتمال زوارها الجدد..

... كاتب وباحث
[email protected]