في هذه الأيام الحالكة؛ أخذت تتعالى صيحات كثيرة من ساسة وكتاب طائفيين شيعة؛ منادية بانفصال الشيعة في دولة خاصة بهم! ليس ذلك رد فعل، على الحراك الجماهيري الواسع النطاق في ما يسمى بالمناطق السنية وحسب، بل هو عودة لدعوات سابقة واسعة؛ نادت بدولة البصرة والناصرية وجمعت من أجلها مضابط بمليون توقيع! ونظمت من أجلها مسيرات ومحافل خطب حاشدة، مدعين أن ذلك وحده يزيل مظلومية أتباع أهل البيت! دعوات اليوم تكشف مرة أخرى عن نزق ويأس متزعمي الشيعة عن ايجاد الحل الوطني الصائب لانتفاضة الأنبار والمناطق الأخرى، والتي هي تعبير عن ازمة الوطن، مع نظام الحكم كله، مفضلين الرد عليها بوصفها فقاعة ونتانة، وسلوك طريق التهديد والوعيد، والتمهيد للانفراد بالشيعة، وجرهم لكانتون ضيق، متجاهلين ما سيجره على جماهير الشيعة الأبرياء الغافلين؛ من ويلات ومصائب!

هؤلاء يستندون في دعواهم إلى ان الثروة النفطية تقع في معظمها بما يسمونه المناطق الشيعية، غير مكترثين لحقيقة ثبتتها الدساتير والأعراف الإنسانية، تقول أن ثروات أي بلد هي ملك لجميع مواطنيه، وإن عملية اكتشافها، وإدارة استثمارها قامت بها الدولة بجهدها الوطني لا الفئوي أو المناطقي! وإن الشعب كله مكلف بحمايتها، ينظم ذلك قانون الخدمة العسكرية الإلزامية الذي يشمل الجميع، وإن أسلافهم قد ذادوا عنها بدمائهم وارواحهم، وهم سيدافعون عنها لاحقاً بكل ما أوتى من قوة الشعب، لا الفئة الواحدة! لذا لا يحق لفرد أو جماعة أن تدعي ملكيتها لوحدها! فمن قصر النظر والسذاجة؛ تصور أن ثروات الفوسفات والذهب في عكاشات هي ملك لأهل الأنبار، ولا حق لأهل البصرة أو الموصل وأربيل او كركوك بها! أو أن آبار النفط في الرميلة هي ملك لأهل البصرة وحدهم، ولا حق لأهل الأنبار أو الموصل والسليمانية بها، فعندما ضحى أهل الأنبار بمدينة عانة من أجل إقامة سد الفرات في السبعينات، لم يخطر ببالهم أن الماء المخزون سيكون لهم وحدهم! كانوا يعرفون جيداً إنه سيكون لأبناء الجنوب أيضاً، وقد أغرقت عانة وهي مدينة جميلة كانت تحوي الكثير من الكنوز التاريخية، وذكريات أهاليها، وقبور أحبتهم، تضحية من أجل العراق كله، وتوارت بهدوء وصمت! ترى هل لو كانت هذه المدينة جنوبية او شيعية،يحق لشيعي أن يرفع صوته؛ ليتحدث على طريقة الطائفيين اليوم؛ فيقول: يجب ان يكون الماء للشيعة فقط؟ أي منطق هذا؟ هذه مفاهيم ولافتات غوغائية استعملها الطائفيون بكل قسوة ووحشية على مر العصور، وفي كثير من البلدان؛ وكان مصيرها أنها ارتدت إلى نحورهم، ولكنها آذت الكثيرين معهم أيضاً!

لتفترض أن هؤلاء الطائفيين، قد غمطوا حقوق الآخرين، واستأثروا بثروة البلاد، وتجاوزا بحر الدم الذي يتفجر عادة عند تقسيم بلدان القوميات والطوائف، واقاموا دولتهم العتيدة معتمدين على مليارات النفط، ترى كم ستكون حصة الشيعة الفقراء منها؟ وكم ستنزل في جيوب المتزعمين كالعادة؟ ماذا سيحققون لجماهير الشيعة؟ هل سينهون هذه المظلومية التي لا تزال مستمرة؛ رغم حكمهم لعشر سنوات، واختفاء مئات مليارات الدولارات، ووصول حتى مزوري الشهادات إلى مناصب وزراء ونواب وأعضاء لجان نزاهة وثقافة؟
تثبت تجربة الحضارة؛ ان الدول لا تبنى بالثروة فقط، لا بد من سلسلة شروط وأوضاع، وسلم قيم ومبادئ رصينة لقيام الدولة!

هل فكر هؤلاء كيف سيكون موقع ومكانة هذه الدولة في محيط سني يضم أكثر من 90% من المسلمين؟ كيف ستتعامل هذه الدول مع رعايا الدولة المنفصلة، وهي الآن تسأل المسافر في مطاراتها: هل أنت سني أم شيعي؟ بالطبع ستلوذ هذه الدولة أو الدويلة بجناح إيران؟ فأسس ذلك قائمة الان بالفعل في كواليس مجلس الوزراء، ووزارة الداخلية، والدفاع ومعظم مؤسسات الدولة! كيف ستعامل إيران هؤلاء الناس الذي أحرقوا سفنهم مع العالم العربي، والإسلامي السني؟ من المتوقع أنها ستعاملها بمنتهى العنجهية والتعالي، وتسومهم الإهانة والإذلال! ويتذكر كثير من العراقيين الذين عاشوا في إيران، أيام التهجير الصدامي المشؤومة، كيف عاملهم الإيرانيون واذاقوهم صنوف القسوة والفظاظة والغطرسة. كانوا يتصدون حتى لمن يبيع السجائر على الرصيف؛ بالضرب والتوقيف والحجر.

ثم كيف سيقتسم متزعمو الشيعة العراق مع السنة؟ اين هي الحدود الواضحة بين الشيعة والسنة ومدنهم وأحيائهم،بيوتهم ومقابرهم؟ وقد عاشوا مئات السنين أسرة واحدة، تصاهروا وتحابوا وارتبطوا بأعمال ومصالح لا تحصى ولا تعد، كيف تنفرط هذه الوشائج الإنسانية العميقة، من اجل سواد عيون الطائفيين في الضفتين؟ كيف سيقتسمون تاريخ العراق، الذي صنعه العراقيون جميعاً شيعة وسنة؟ كيف سيقتسمون المتحف العراقي مثلاً؟
لا يسعني، سوى أن أتخيل السيناريو التالي: سيتنازل متزعمو الشيعة عن كل لقى وآثار الفترة السومرية والأكدية والبابلية والآشورية؛ بدعوى أنها تعود للعهود الوثنية، فهي اصنام وأوثان (كتماثيل بانيان في افغانستان) ثم سيركلون بأقدامهم كل آثار الفترة الأموية؛ فهم قتلة الحسين، ويرفضون آثار العباسيين بدعوى مشاركتهم في ظلم الشيعة، وقتلهم أئمتهم اللاحقين، ثم سيركلون بقايا العهد العثماني، وسينظرون بحقد وضغينة لآثار الدولة الحديثة في العهد الملكي لأنه بنظرهم عهد سني بامتياز! سيحملون فقط، وبكل اعتزاز وإجلال آثار الفترة الصفوية، والتي لا تعدو زردات وقامات تطبير، بوصفهم هم من علم شيعة العراق اللطم والتطبير وركضة طويريج! يا له من تراث، وقسمة رابحة، ستفرح الطائفيين السنة؛ فسيكون المتحف العراقي كله ملكهم، ويخرج ملايين العراقيين الشيعة بفضل متزعميهم الطائفيين، بلا تاريخ، ولا امتداد، ولا جذور، في وطن كانوا ولا يزالون أبناءه المحبين المخلصين له، المضحين من أجله، احتضنه المبدعون منهم بقصائدهم وأغانيهم وروايتهم وأفلامهم ولوحاتهم، ومواهبهم الكبيرة الساطعة. من تعجبه هذه المغامرة الرهيبة، فليصفق لدعاة دولة الشيعة الغنية بالنفط، والمحمية من إيران، التي ستدخلهم معها النادي النووي قريباً، وتهانينا مقدماً!