من خلال قراءتي للتاريخ، أقف في بعض الأحيان عند مقالات وإشارات ترد في بطون بعض أمهات الكتب وهي تطعن بالأكراد، حتى يذهب البعض منهم الى حد وصفهم بأقذع الصفات والنعوت،ولا يتحرج البعض ممن كتبوا التاريخ أن يصفوهم بأنهم من قوم يأجوج ومأجوج المفسدين في الأرض.وغالبا ما يستشهد ممن في قلبه شيء من الحقد والكره ضد الكرد ببيتين أطلقهما أبو دلامة شاعر بلاط الخليفة المنصور العباسي عندما شمت في موت أبو مسلم الخراساني عدو المنصور حينما قال فيه quot; أبا مجرم هل غير الله نعمة على عبده حتى يغيرهــــــا العبـــــــد، أفي دولة المنصور حاولت غــدرا ألا أن اهل الغدر أباؤك الكــــردquot;.

وكان أبو مسلم هو باني الدولة العباسية،لكن المنصور حسدا عليه وغيرة منه غدر به وقتلة غيلة وغدرا،وكان المنصور بذلك غادرا وليس أبا مسلم المغدور الذي قامت دولة الغادر المنصور على أكتافه. ولو نجح أبو مسلم في قتل المنصور،وأصبح هو الخليفة بدلا عنه، لقلب أبو دلامة وجهه نحو المنصور ووصفه بالغدر،وأصبح أبا مسلم هو بيضة الإسلام وخليفة رسول الله، وتحول الى بطل من أبطال الأمة الإسلامية كما صلاح الدين الأيوبي، وأصبح الأكراد هم حماة الإسلام يرد ذكرهم المحمود عبر التاريخ.فهذا هو ديدن شعراء البلاط ووعاظ السلاطين ومن يكتبون التاريخ بالزور والبهتان في كل آن وزمان.

وفي العصر الحديث تتوالى الإتهامات ضدهم أيضا،فتارة يوصفون بأنهم إنفصاليون وشعوبيون،ويصل الحقد والكراهية بالعرب القومجية الى حد إخراجهم من ملة الإسلام والتشكيك بدينهم.مع أن المجتمع الكردي كان ومازال هو من أكثر المجتمعات تمسكا بيدنه وإسلامه السمح، الذي يستغل اليوم بأبشع صور الإستغلال مطية للسياسة والوصول الى الحكم، في حين أن الدين عند الأكراد حافظ على سماحته ونقائه وبساطته، فما زلت أذكر في طفولتي نقاء ذلك المجتمع الكردي، وكيف أن الناس في ذلك الزمان يبرون بعضهم ببعض،وكانت أخلاقهم وقيمهم تسمو فوق كل الخلافات التي تبقر اليوم البطون من أجلها، وتقطع الرؤوس المخالفة بعضها لبعض في كل شبر من أشبار الدول الإسلامية.وكان الناس حينذاك كأصحاب محمد الذين وصفهم القرآن الكريم رحماء بينهم، يبر الولد بأبيه، ويرحم الغني على فقيرهم،ولم يكن للحسد وجود بل إيثار للغير،وكانت العلاقات الإجتماعية في غاية الروعة،بين الأهل بعضهم ببعض،وبين الجار الأول والجار السابع، وطهر اليد وإستقامة النفس وخلوها من الحقد والكره،وكان من الصعب أن يعرف أحد دين المسيحي ما لم يجهر به،فلا سؤال عن دين أحد، بل علاقة المحبة كانت الغالبة على الكل، في ظل هكذا مجتمع تربينا نحن أبناء ذلك الجيل العظيم من ورثة أخلاق النبي الكريم الذي جاء بالحق ليتمم مكارم الأخلاق.

وفي مدينة أربيل عاصمة كردستان التي حكمها السلطان مظفرالدين الكوكبري قبل أكثر من ثمانمائة عام،خرجت سنة الإحتفال بالمولد النبوي الشريف،فحب أهلها لرسول الخاتم جعلتها سباقة بإطلاق الإحتفالات السنوية بمولده، لتستن بذلك سنة ما زالت متبعة بأنحاء كردستان ومنها إنتشرت من ذلك الزمان قبل ثمانمائة عام الى أرجاء المعمورة.

وكانت إحتفالات المولد النبوي الشريف هي المناسبة التي يتدفق فيها المسلمون في أرجاء المنطقة على هذه المدينة لنيل الخير من صاحبها السلطان مظفرالدين الكوكبري الذي يصفه صاحب كتاب البداية والنهاية بأنه quot; كان أحد الأجواد والسادات الكبراء والملوك الأمجاد، له آثار حسنة، وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا. وكان مع ذلك شهما شجاعا فاتكا بطلا عاقلا عالما عادلا رحمه الله وأكرم مثواهquot;.وعن إحتفاله بالمولد النبوي الشريف قال سبط الجوزيquot; كان مظفر الدين ينفق في السنة على المولد ثلاث مائة ألف دينار،وحكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد، أنه كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم ويطلق لهم،ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، وكانت صدقاته في جميع القرب والطاعات على الحرمين وغيرهما، ويفك من الفرنج في كل سنة خلقا من الأسارىquot;.

هذه العادة الحميدة ورثها الأربيلليون عن سلطانهم العادل الذي مازالوا يتبركون بمرقده في المدينة وتزوره النساء طلبا لشفاعته لكثرة محبته للرسول،حيث ما زالت هذه المدينة الكردية تحتفل بأسرها كل عام بهذه المناسبة المجيدة،ولم تتأثر إحتفالاتهم منذ أكثر من ثمانية قرون بتغير الزمان،فحب الرسول كان ومازال كامنا في نفوس الأكراد في شتى مدنهم ومناطقهم،ومن يزر المدينة في اليوم المصادف لمولد النبي الكريم ستوقفه مشاهد التعلق بحب هذا النبي من خلال الإحتفالات البهيجة بهذه المناسبة، حيث تتزين شوارع المدن، وتصدح الحناجر بالأناشيد الدينية الممجدة للرسول الأعظم.

ومن تلك العادات التي إنتقلت من سلطانهم الكبير،يجود أهل أربيل خاصة وكردستان عموما بالكثير من الصدقات والخيرات في هذا اليوم،ناهيك عن تزيين واجهة المحلات وحتى البيوت بالأضوية الكهربائية الملونة،ومد صواني الحلويات بكافة أشكالها وعلى إمتداد شوارع المدينة، ويتدفق الأطفال الى الشوارع ليجمعوا ما خف وزنه عليهم من الحلويات وبعضهم يحمل أكياسا يملأها بعلب البيبسي والكوكا كولا،فيما تمتليء المساجد بالمحتفلين وهم يرددون قصيدة طويلة نظمها القاضي رشاد المفتي والد رئيس البرلمان الكردستاني الأسبق عدنان المفتي وهي قصيدة تضاهي قصيدة البردى للإمام البوصيري،ألفها القاضي رشاد باللغة الكردية، وأصبحت متداولة على ألسن الفرق الشعبية التي تتجمع بالمساجد والجوامع للإحتفال بهذه المناسبة العظيمة على وقع الدفوف والطبل في أجواء مشبعة بالفرح والسرور بحلول هذا اليوم المجيد.

وإعتادت عائلة المفتي،وخاصة أولاد القاضي رشاد،وهي العائلة التي ورثت إمامة الصلاة بجامع القلعة الكبير،على الإحتفال بهذه المناسبة كل عام،وجدير بالإشارة الى أن الإحتفال السنوي بالمولد النبوي بهذا الجامع الكبير بالقلعة لم تتوقف منذ أكثر من خمسمائة عام،ورغم أن القلعة التاريخية التي دخلت اليوم ضمن المواقع الأثرية المدرجة بقائمة منظمة اليونسكو، وأخليت من سكانها تماما منذ عدة سنوات لإعادة تعميرها،ولكن لإحياء هذه السنة المحببة،إعتاد أولاد القاضي رشاد المفتي على إقامة مراسيم الإحتفال بجامعها الكبير ودعوة كبراء المدينة وأعيانها وفقرائها أيضا للإحتفال بهذه المناسبة التي مجدها الراحل الكبير القاضي رشاد بقصيدته الرائعة المسمى بـ(مولود نامة ) باللغة الكردية والتي ستحافظ وحدها على ذكر هذا الرجل المتفاني بحب رسول الله وعلى مر التاريخ.

[email protected]