تصدرت quot;رأس العينquot; (أو سَري كانييه بالكردية) الواقعة في أقصى الشمال الشرقي السوري مشهد الثورة السورية أواخر نوفمبر الماضي، تحديداً بعد اشتباكات عنيفة وقعت بين مقاتلين من كتائب محسوبين على quot;الجيش السوري الحرّquot;، كquot;جبهة النصرةquot; وquot;غرباء الشامquot; وquot;احفاد الرسولquot; إلى جانب كتائب أخرى محسوبة على الأكراد ككتيبة quot;آزاديquot; وquot;المشعلquot; وغيرها من جهة، وبين مقاتلين من quot;وحدات حماية الشعبquot;، الجناح العسكري لquot;حزب الإتحاد الديمقراطيquot; المقرّب من quot;العمال الكردستانيquot; بقيادة الزعيم الأسير عبدالله أوجلان، من جهةٍ أخرى.

السؤال الذي طُرح آنذاك ولا يزال يطرح نفسه بقوة، هو: لماذا quot;رأس العينquot; بالضبط، وما هو موقعها الإستراتيجي في خارطة الثورة السورية؟
تحديداً أين تكمن المشكلة، ومن هو رأسها في quot;رأس العينquot;؟

مدينة quot;رأس العينquot; الواقعة على الحدود التركية هي بإختصار quot;كركوك سورياquot;، أو هي نموذج مصغّر للموزاييك الإثني والقومي والديني السوري الكثير، حيث فيها يعيش العربي والكردي والآشوري والسرياني والأرمني والشيشاني والتركماني والماردلي، والمسلم والمسيحي والإيزيدي. من هنا يمكن القول أنّ أيّ محاولة لضرب هذا الموزاييك ببعضه، هي في المنتهى محاولة لضرب كل سوريا ببعضها البعض.

كان على أهل الثورة، سياسيين وعسكريين، أن يقفوا بالمرصاد ضد أي مشروع من شأنه أن يسقط سوريا في quot;رأس العينquot; قبل إسقاط النظام في دمشق. لكنّ ما كانت تخاف منه الأغلبية الصامتة، ممثلةً بالأقليات السورية وعلى رأسها الأقلية الكردية، هو بالضبط ما حدث في quot;رأس العينquot; أو quot;سوريا الصغرىquot;، وهو الأمر الذي زاد من خوف هؤلاء من قادم سوريا الذي لن يكون، على ما يبدو، قادماً مفروشاً بالورد، كما وعدهم أهل الثورة، ولا يزالون، من الفنادق إلى الحنادق.


ما حدث في quot;رأس العينquot;، ولا يزال، ليس فيه من الثورة، بكلّ أسف، إلا إسمها وأعلامها. فيه من quot;ضد الثورةquot; أكثر من quot;معهاquot;، لماذا؟
لأن ما عجز النظام حتى الآن من فعله في quot;رأس العينquot; وما حواليها من موزاييك سوري جميل، تمّ تنفيذه بأدوات أهل الثورة، تحت رايات الثورة وتكبيراتها، وبأيدي quot;جيش الثورةquot;.
النظام، هناك، فشل في ضرب quot;رأس العينquot; بquot;رأس العينquot;، أو ضرب سوريا بسوريا، أيّ في ضرب عربها بأكرادها، ومسلميها بمسيحييها وإيزيدييها، لكن أهل الثورة، بكل أسف، نجحوا في تعويض هذا الفشل والتراجع الذي خلّف وراءه النظام.

طريق الثوار إلى دمشق وحواليها، لا يمرّ عبر quot;رأس العينquot;، كما أنّ طريقهم إلى إسقاط النظام لا يمرّ عبر إسقاط quot;رأس العينquot; أو إسقاط أكرادها، كما تقول أخبار معركة quot;عاصفة الشرقquot; التي تقودها أشرس كتائب quot;الجيش السوري الحرّquot;، وأكثرها تطرفاً على الإطلاق.

فتح جبهة quot;رأس العينquot; البعيدة جداً عن العاصمة، تحت راية quot;أهل الثورةquot;، هو مشروع تركي بإمتياز تمّ طبخه في أنقرة، قبل أن يكون مشروعاً للثورة السورية. هو يخدم أجندات أنقرة، قبل خدمتها لأجندات الثورة، التي من المفترض بها أن تكون من quot;دمشق الثورةquot; إلى دمشق، ولأجل تحرير دمشق وأهلها المحاصرين، منذ أشهرٍ عدة.
من هنا فإنّ الجواب على السؤال المطروح أعلاه: لماذا quot;رأس العينquot;، هو جوابٌ يخص تركيا وquot;عمقها الإستراتيجيquot; قبل أن تخصّ الثورة السورية واستراتيجيتها، كما يخص الداخل التركي القلق، قبل أن يخص الداخل السوري المشتعل أصلاً.

تركيا تعلم منذ اللحظة الأولى لإشتعال الداخل السوري، الذي طالماً اعتبرته اشتعالاً في داخلها، أنّ المشكلة السورية هي مشكلة تركية قبل أن تكون مشكلة سورية، كما صرّح بذلك أكثر من مسؤول تركي رفيع، والأسباب كثيرة، لعلّ أبرزها هي تلك التي تتعلق بملف القضية الكردية المؤجلة إلى أجل غير مسمى، والتي كلّفت تركيا، حتى الآن، بأتراكها وأكرادها (البالغ تعدادهم أكثر من 18 مليون أي أكثر من 20%) أكثر من 45 ألف قتيلاً، ناهيك عن قضية العلويين (تقارب نسبتهم ال 25% مجموع السكان)، حيث يشكلّون إلى جانب الأكراد الممثلين بquot;حزب السلام والديمقراطيةquot; الحاضنة الرئيسية لأحزاب المعارضة التركية.

تركيا، كما نعلم منذ بداية الأزمة السورية، ليست جارة حيادية. هي تحوّلت، مع جيرانها (العراق وسوريا بشكلٍ خاص)، بعد التحولات الدراماتيكية التي شهدتها الثورة السورية، من تركيا كانت تريد quot;صفر مشاكلquot; مع الجيران، إلى تركيا تسعى إلى quot;تفجير المشاكلquot; معهم، ولها في هذا التحوّل الإستراتيجي كما تقتضي مصلحتها، دون أدنى شك، أسبابها وأجنداتها، خصوصاً وأنّ لها في سوريا أكثر من امتداد وأكثر من عمق لأكثر من قضية.

تركيا تخاف سوريا، أكثر من أي دولة أخرى جارة، لأنّ أيّ تغيير أو إعادة رسم للخارطة السورية، سيؤثر بشكل مباشر، على مستقبل خارطتها، شاء من شاء وأبى من أبى،. أول أمس قللّ وزير خارجية تركيا أحمد داوود أوغلو في quot;قمّة دافوسquot; من إمكانية قيام quot;دويلة كردية وعلويةquot; في سوريا وحذّر من ذلك، ليس لخاطر عيون سوريا وأهلها، بالطبع، وإنما لأنه يخشى أن تصيب العدوى ذاتها تركيا نفسها، التي تعاني في داخلها من المشاكل ذاتها، والمخاوف ذاتها.
تركيا، تخاف من سوريا على نفسها، وتخشى من امتداد الحريق السوري إلى داخلها.
تركيا تخاف من quot;الحريق الكرديquot;، من أن يلتهم جزءً من خارطتها. لهذا تسعى بكل ما في وسعها، لقطع الطريق أمام الأكرد السوريين، في الحصول على أية حقوق قومية، لإدارة مناطقهم إدارة ذاتية.

رأس المشكلة في quot;رأس العينquot;، هو تركيا ومن حولها، من quot;أهل الثورةquot; الإسلامويين والتكفيريين، الذين لا يرون في الدين إلا دينهم، وفي الدنيا إلا دنياهم، وفي الله إلا إلههم، وفي التاريخ والجغرافيا إلا تاريخهم وجغرافيتهم، وفي الزمان والمكان إلا زمانهم ومكانهم، وفي الإجتماع والثقافة إلا اجتماعهم وثقافتهم، وفي السياسة إلا سياستهم، وفي الحق إلا حقهم.

أهمية موقع quot;رأس العينquot;، لا تنبع من موقعها في استراتيجية الثورة السورية، بقدر ما أنها تنبع من موقعها في استراتيجية الدولة التركية وأجنداتها في المنطقة.

تركيا، التي فشلت، على مدى أكثر من ثلاثين، في حربها على أكرادها، تريد الآن تعويض بعضاً من فشلها، في quot;رأس العينquot;.
تركيا، التي فشلت في إسقاط أكرادها، في quot;دولة قنديلquot; بقيادة quot;حزب العمال الكردستانيquot;، تريد الآن إسقاطهم، بإسقاط إخوانهم الأكراد السوريين، في quot;دولة رأس العينquot;.
تركيا، تخاف من داخلها الكردي، لهذا تسعى إلى أخافة داخل سوريا الكردي من داخلها العربي.
تركيا، تريد إسقاط أكراد سوريا في رأس العين، كي تسقط أكرادها.
تركيا، تريد إسقاط أي محاولة لقيام إقليم كردي سوري، بدءً من quot;رأس العينquot;، لإسقاط محاولات أكرادها لقيام إقليم كردي في داخلها.

نعم quot;إيران الشيعيةquot; وما حواليها من quot;هلال شيعيquot; أو quot;جيوبٍ شيعيةquot;، الداعمة منذ الأول من الأزمة، للنظام السوري، هي مشكلة، لا بل أكثر من مشكلة، لكنّ quot;تركيا السنيةquot; وما حواليها من quot;قمر سنيquot; داعم للمعارضات السورية المفصّلة، من إستانبول إلى الدوحة، ليست حلاًّ، كما يسوقونها أهل الثورة منذ أكثر من 22 شهراً من النزيف السوري المتواصل.

أخشى ما يخشاه السوريون، هو أن تتحوّل ثورتهم، كما هو حاصلٌ في quot;رأس العينquot;، من quot;نعمة مفترضةquot; إلى نقمة، أو من quot;ثورة شعب ضد نظامquot; إلى quot;حرب شعب ضد شعبquot;، أو quot; سوريا ضد سورياquot;.

[email protected]