لا أله إلا الله.. ليس لي سوى أن أردد مع نفسي هذا النداء عن بعد. وأنا أرى صورة نعش المبدع الراحل صادق علي شاهين محمولا على أكتاف أهله وأحبابه. عمره أربع وسبعون عاماً. بقي منذ سنوات مستلقيا على سريره فاقدا للذاكرة عاجزاً عن الحركة حتى غيبه الله عنا. لا إله إلا الله!

أربع وسبعون عاما؟ لا يزال أمامه الكثير لكي يتحرك ويضحك وينصح ويؤنب ويصيح لم يعجبني أدائي كثيراً. لنعيد المشهد.. ولا أتعب. أعادة وإعادة ثانية وإعادة ثالثة ويروح إلى البيت مرتاحاً يسلم على أهله ويشرب الشاي ويصحو في الصباح الباكر الثاني لمزيد من العطاء. لكن كل ذلك لم يحصل. بل سكن في سريره فاقد الذاكرة.. لم يكتب مذكراته ولم يتمتع بمشاهدة الأفلام ولا مشاهدة التلفاز حيث لم يعد ثمة مشهد جدير بالمشاهدة، فأنسجم المشهد التلفازي مع المشهد الفيزيائي إذ لم تعد ثمة قدرة على المشاهدة ولا ثمة قدرة على مواصلة الحياة. فرحل عنا صادق علي شاهين، ومن سمع الخبر وتمكن من اللحاق بموكب المشيعين مشى حتى لحظة الوداع الأخير، ومن أرهقه التعب وحالت الأمطار وزحمة الشوارع دون لحاقه بالمشيعين سوف يردد مع نفسه quot;لا إله إلا اللهquot;

رحيل الرواد بات متسارعاً !

كأنهم يقفون في الصف مستعجلون، فلم يعد ثمة مزاج للأنتظار.

يرحل عبد الهادي مبارك.. يرحل شكري العقيدي.. يرحل وجدي العاني.. يرحل صادق علي شاهين.. يرحل.. وبينهم أيام وكأنهم فعلا واقفون في الصف متعجلون السفر الأخير.

كل يرحل لوحده، لا صديق ولا أنيس في أرض مطار الرحلة الأخيرة. لا باقة ورد ولا زيارة ثانية أو ثالثة في أيام الأعياد كي تطرد الوحشة عن الغافين وحدهم.

من ترى يقرأ الخبر!؟ هل هو خبر عن عرض مسرحي والذهاب للحصول على تذكرة الدخول لمسرحية الجنة المفقودة، أم أن التذاكر نفذت لشدة الإزدحام على مدخل المسرح القومي ومسرح الخلد والمسرح الوطني ومسرح الحياة!؟

هل نفذت التذاكر وعاد المشيعون خائبين!؟ أم أن الطريق كانت مزدحمة وتعذر الوصول للمشاركة في حضور المشهد الأخير لفنان رحل ولم يقل له حارس البلاد وداعاً.

شموع الغربة إنطفأت، غربة المنفى في الوطن لا غربة الوطن في المنفى.

لم يعد ثمة مسرح يا صادق علي شاهين حتى تعتلي خشبته وتضحك من هذه الدنيا أو تضحك عليها. هي ملهاة مرة فأقبلها مثل قهوة الصباح.

علام تبقى كثيراً فسوف لن يكثر المودعون، فليس ثمة قوة تنهضهم للمشاركة في الوداع. فلقد ملوا من زحمة الوجود الصعب وزحمة الشوارع وزحمة المفخخات وزحمة الأمطار، وهبوط الهمة، وشيوع اليأس!

اليوم يحمل رفاتك الطاهر أهلك وبعض من أصدقائك.

غداً سوف يموت كل مبدع لوحده. لا أحد يحمل التابوت. يذهب المبدع ماشياً نحو تلك الحفرة الباردة، يلبس الكفن وينزل فيها دون أن يغتسل لأنه مبدع والمبدع طاهر بحب وطنه ولا يجوز غسيله. فقط ينتظر من يمر على القبر ويردم فتحة القبر بالتراب!

ثمة من يمسك بالقائمة ويشطب الأسماء حتى نهايتها لينام مرتاحا، إذ لا شيء يؤرقه بعد اليوم فقد مات المبدعون.. لا إله إلا الله!