ما أروع أن تتجاوز أحلام الإنسان واقعه المزري، فإذا كان الواقع مريرا ً يكون الحلم حينها فسحة من الأمل حين يفتح نافذة للهروب نحو مكان ما بعيدا ً عن ذلك الواقع المرير. أما إذا كان الحلم أكثر تعاسة من الواقع الذي يعيشه الإنسان فإنها ستكون بالتأكيد تجربة تفتح بابا ً للتشائم وسوء الطالع. لن أطيل عليكم، سأقص عليكم ماحلمت به البارحة ليلا ً فعدت للواقع كحال من يستجير من الرمضاء بالنار.
كنت أنا وزوجتي نركب حافلة كبيرة مليئة بالركاب، وبينما كانت الحافلة تسير كنت أتحدث مع شخص آخر بهاتفي النقال، فجأة، وإذا بحركة السير تتوقف فتوقعت بأننا نقف عند إشارة للمرور، ولكن، وبعد مدة ليس بالطويلة عادت حركة السير لوضعها الطبيعي مع بطئ في حركة المرور وإذا بي أشاهد مجموعات من الجيش والشرطة العراقية برتب عسكرية مختلفة تقف على جانبي الطريق وبأيديهم أسلحة وآلات حادة من سكاكين وسواطير وسيوف. لقد كان كل ثلاث أو أربع أنفار يمسكون بمجموعة من الشباب يلبسون ملابس سوداء مقيدين يكتظون في مجموعات صغيرة تحت رقابة هؤلاء الأنفار من الجيش والشرطة. وفجأة أكتشفت بأنها سيطرة وهمية وما هم إلا إرهابيين ينتحلون صفة عسكرية، وما نحن إلا خرفان تنتظر الذبح عند نقطة التفتيش. لقد كنت خائفا ً في ذلك الحلم حد الرعب بسبب هويتي الشخصية التي تحمل مكان ولادتي المحسوب على مكون معين. الحمد لله، أفقت من حلمي وعدت لواقعي من جديد.
سوف لن أستخدم كتاب أبن سيرين لتفسير الأحلام كما يفعل الكثيرون على الفضائيات. ولكن، ربما ستكون نظرية فرويد في التحليل النفسي نافعة في هذا المجال. لم أتعرض في حياتي لرعب كهذا، والذي سأسميه بالرعب الطائفي، إلا مرة واحدة في العراق عام 2006 حينما كنت في زيارة للعراق لشهر واحد. فأنا أعيش خارج العراق منذ 14 عاما ً مضت. ففي شهر تموز الشديد الحرارة من عام 2006 كنت في منطقة ما في بغداد وأستأجرت سيارة أجرة أنا وزوجتي ووالدتي للذهاب لبيتنا الواقع في منطقة أخرى. أشترطت على السائق حينها بأن لايمر بمنطقة أخرى معينة هي خارج نطاق السيطرة للجيش والشرطة أو حتى القوات الأمريكية حيث تحدث يوميا ً هناك عمليات قتل على الهوية. لاأطيل عليكم أدخلنا السائق في المنطقة الخطرة رغم التحذيرات بحجة أنه طريق مختصر، فلم أستطع منعه وتأخرت كثيرا ً في ذلك وأسلمت أمرى لله ووضعت يدي على قلبي بصمت رهيب. لاجيش ولاشرطة كانا هناك، ولا أحد سوى سائقي الدراجات النارية الملثمين الذي يصطادون ضحاياهم. لقد كانت الشوارع متربة لقلة مرور السيارات فيها وجذوع النخل والأسلاك الشائكة منتشرة في كل مكان تسد طرق معينة وتفتح أخرى. لقد كان عندي أصدقاء كثيرون في تلك المنطقة فحاولت ألبحث عن شخص ربما أعرفه من خلال التدقيق بوجوه المارة على قلتهم، علي أتعرف على أحدهم ليكون عون لي إذا ماوقعت في شدة، بالخصوص بعد قراءة هويتي الشخصية ومكان ولادتي. لم أفلح في ذلك والتزمت الصمت. وبقدرة قادر، خرجنا من تلك المنطقة من غير أن يسألنا أحد وهذه كانت حادثة نادرة الوقوع حينها. وصلت إلى البيت فرحا ً وأعطيت السائق كوبا ً من الماء البارد في عز الصيف اللاهب ولاأعلم إلى الآن ماكان يقصد هذا السائق بالدخول في ذلك المكان الرهيب.
عودا ً على نظرية فرويد، إذ يقول أن الأحلام في حياتنا هي وسيلة لتحقيق الأماني التي نتمناها في الواقع الحقيقي، حيث يقوم عقل الإنسان بفرض رقابة صارمة على أحلامنا التي نتمناها في واقعنا الحقيقي، أي تلك الأمنيات التي تخالف ماتعارف عليه في المجتمع عما هو صح وماهو خطأ أو ماهو حلال وماهو حرام، وذلك بفعل ضغط الأنا الأعلى الذي يأخذ دور المجتمع فيقوم بترميزها وإعادة إنتاجها في الاوعي عند الإنسان فتخرج على شكل أحلام ربما غير مفهومة لكنها أشبه بخطاب مطوي في ظرف يحتاج لمن يفتحه ويقرئه فانه بالتأكيد يعبر عن شيئ حقيقي كامن في ذواتنا.
لا أعرف أن كان حلمي يرمز لعملية هروب كبيرة من الحادثة الحقيقية التي ممرت بها قبل أعوام، فعملية الإستيقاض قبل الدخول في عملية التفتيش للحافلة أثناء الليل هو ذلك الهروب الكبير من الموت الذي ربما كنت سأواجهه قبل سنوات عدة في سيارة الأجرة. فتلك الربع ساعة التي مررت بها في تلك المنطقة الخطرة جدا ً كانت تمثل عملية هروب من موت محقق وحقيقي، حتى إنها لاتشبه بطولها ورعبها عملية الهروب التي قمت بها قبل سنوات من قارة أفريقا إلى قارة أوربا، يومان من الظلام الدامس في قارب صغير يصارع أمواج البحر الأبيض المتوسط الهائجة مع الأمطار الغزيرة، ذلك البحر المعروف بقروشه المتوسطية وهيجانه الذي أغرق 284 من سفن روما قبال سواحل جزيرة صقلية بعد معركة مع الجيش القرطاجي المهزوم في الحرب البونية الأولى قبل الميلاد.
لا أعرف لماذا لا أحلم أحلاما ً ديمقراطية أو أحلاما ً وطنية بدل تلك الأحلام الطائفية، ربما لايوجد هناك بوادر للأمل على أرض الواقع لتتجاوزه أحلام تكون وطنية أو ديمقراطية، أوربما هو شدة الأفراط بالتشائم الذي يجلب معه أحلام بالهروب من الموت المحقق نكاية عن موت حلم الوطن الواحد الذي يعيش فيه الناس بأمن وأمان بكل أطيافه ومكوناته المختلفة. نعم، عقب كل أزمة سياسية لها جذور طائفية تبدأ الأحلام الطائفية التي تحاول تجاوز الموت، موت الفرد أو موت الوطن نفسه، بفكرة الهروب الرمزي، ذلك الذي يشبه هروب هنري شاريير من جزيرة غويان الفرنسية بحثا ً عن الحرية في رواية الفراشة. نعم، إنها رحلة طويلة من الألم في الهروب من الموت المحقق في المنفى، وفي نفس الوقت هو طريق الحصول على الحرية. ففكرة الحرية هنا تتداخل مع فكرة الحياة التي نبحث عنها من خلال الهروب، أما البقاء في المنفى فهو رديف الموت. أن العلاقة الجدلية بين الفكرتين ستضع الموت قبال الحرية، إذ أن الحرية هي رديف للحياة وعدم الهروب إليها سيكون المنفى رديف للموت. أن الطائفية هي الموت والهروب منها نحو مشروع وطني هو الحرية. إذن، الحرية هي نقيض للطائفية، فلايوجد بلد حر تحكمه طائفية مقيتة.
في هذه اللحظة التي تمثل الواقع الذي نعيشه والتي ربما كانت وراء حلمي هذا، وحتى وراء كتابة هذا المقال، هي هذا الحد الفاصل بين البقاء كوطن واحد ينعم بالحرية من خلال الهروب إليها من التقسيم، أو يتقسم هذا الوطن ليصبح دويلات صغيرة يتنازعها زعماء الطوائف وهنا تكمن فكرة الموت، نعم، الموت بالطائفية ثم التقسيم. لم أخف على وحدة العراق كما خفت عليها اليوم، ليس بسبب الشعارات الطائفية التي رفعها بعض المندسين أو من المتعاطفين معهم من أصحاب المشروع الأقليمي في بدأ المظاهرات في بعض المناطق الغربية، ولكن، المخيف بالأمر هو أن تلك المناطق ترفع مطالب فيها من الحق الكثير ولكن فيها أيضا ً مما لايتفق مع ما يريده مكون آخر والذي يحاول بعض السياسيين إستغلاله طائفيا ً، مما ينذر بإنشقاق كبير وتمزق في نسيج المجتمع العراقي الذي لايتفق على رؤية واحدة لمعنى الوطن وشكله وطريقة إدارته، بل يجعلهم يمتلكون قصتين محتلفتين وحكايتين متناقضتين تعبر عن معنى الوطن، إذا مافهمنا بأن الوطن هو عبارة عن حكاية واحدة تتناقلها الأجيال تعبر عن لحظات الحزن والفرح التي يمر بها الشعب الواحد كالشعور بالظلم أو الفرحة بفوز المنتخب الوطني بكرة القدم. كل ذلك جعل بعض السياسيين من المكونات المختلفة يستميتون لتمرير مشاريعهم الطائفية. أن المخيف في الأمر هو إستخدام أولئك السياسيون اللغة الطائفية في الفضاء العام في بياناتهم السياسية ونقاشاتهم ومواقفهم أيضا ً لتكن أكثر إنسجاما ً مع الخطابات الاقليمية المتصارعة والتي تنتقل من دولة إلى أخرى بحثا ً عن موطن للتنازع وفظ الخلافات فيه.
أما أنا شخصيا ً فأتمنى أن يكون للوطن حكاية واقعية واحدة يتجاوزها حلمي ليكون حلما ً بالأمن والأمان والسلام لكل أبنائه، وحينها لن أسمي ما أراه بالأحلام الطائفية بل سأسميها أوهام طائفيه أو أضغاث أحلام حيث سأرويها لأبني الصغير ليكون فكرة واحدة عن معنى الوطن تحكي قصة واحدة لا أكثر.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات