لو أن هناك ما يدعو للدهشة في الأداء السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في السنتين الأخيرتين لكان هذا السقوط العظيم وبهذه السرعة المذهلة غير المتوقعة. سنتان من العمل بحرية ومن دون متابعة أمنية، منها ستة أشهر في الحكم، كانتا كافيتان لهزيمة الإخوان على المستوى الشعبي بالضربة القاضية. أمر لم يكن يخطر على البال. كل الليبراليين والثوريين والإعلاميين والمثقفين الذين وقفوا مع الجماعة بحجة إسقاط الفلول من نظام الرئيس السابق حسني مبارك تراجعوا وتابوا عن خطيئتهم، بل والكثيرون ممن أيدوا الإخوان في السنتين الماضيتين حادوا عن تأييد الجماعة. ولم يعد يؤيد الإخوان بحق اليوم إلا المؤمنين بالفقه التكفيري القطبي والمتطرفين وأدعياء الدين. المثير أن السقوط الإخواني العظيم لم يكن نتيجة عوامل خارجية ولكنه كان بقوة دفع ذاتية عجيبة.

توافرت للإخوان فرصة ذهبية للدخول إلى المعترك السياسي بعد تنحي الرئيس السابق وسقوط نظامه. كان التعاطف الشعبي مع الإخوان عندئذ في قمته نتيجة حالة الكر والفر بين الجماعة ونظام مبارك التي امتدت طوال العقود الثلاثة الماضية. توقع الكثيرون من المصريين، سواء من المؤمنين بالفقه الإخواني أو من غير المؤمنين به، أن تؤدي الجماعة أداءً جيداً على الساحة السياسية؛ أداءً يتيح لهم الانخراط في العمل السياسي بشكل علني ويكشف عن وجه حسن للتيار الإسلامي. لكن الإخوان بدأوا منذ اليوم الأول لعملهم فوق سطح الأرض في التعاطي بكبرياء وغرور مع القضايا الوطنية ونظرائها من التيارات السياسية الأخرى. وسارعت الجماعة للعمل بمفردها مع المجلس العسكري ونجحت بعد ممارسة ضغوط مكثفة عليه في الحصول، من دون وجه حق، على العديد من التنازلات المهمة التي وضعتهم في صدارة الصفوف ورجحت موقفهم في كافة الأمور التي رسمت خارطة الطريق لحاضر مصر ومستقبلها القريب ومنها الانتخابات البرلمانية والرئاسية وكتابة الدستور وغيرها.

عادت الجماعة من جديد لتخذل كل من راهن على أداء مشرف لها حين أمرت ميليشياتها بالاعتداء على المعتصمين أمام القصر الرئاسي ما أسفر عن مقتل عدد منهم. ثم كان الحدث الأكبر الذي هز وجدان كل إنساني مصري ذلك الذي جرى في الذكرى الثانية لتظاهرات ٢٥ يناير ٢٠١١ والذي أكد تماماً على الإدارة الإجرامية للإخوان. عشرات المتظاهرين جرى اغتيالهم بأوامر إخوانية وبرصاص رجال أمن وقناصة، ربما من ميليشيات الإخوان أو حركة حماس، في عدد من مدن ومحافظات مصر بسبب مطلبهم المنطقي والشرعي بسقوط نظام الإخوان. بهاتين الجريمتين أظهر الإخوان المسلمون وجههم الحقيقي من دون أدوات تجميل وأثبتوا أنهم يقودون أسوأ الأنظمة التي عرفتها مصر المعاصرة على الإطلاق، فحتى نظام مبارك الذي يحاكم الإخوان رموزه أثبتت الأيام أن رجاله ملائكة بالمقارنة بقادة الإخوان، فلا مبارك ولا أحد من رجالاته أثبتت التحقيقات، حتى اليوم، ارتكابه جريمة قتل المتظاهرين.

ارتكب قادة الإخوان المسلمين كل الأخطاء وفعلوا كل المحرمات التي اتهموا بها الرئيس السابق مبارك ووضعوه مع كبار رجالاته خلف أسوار السجون، في دلالة واضحة على إصابتهم بمرض انفصام الشخصية. ولعل استخدام النظام الإخواني للألة الأمنية والعنف المفرط في التعامل مع التظاهرات غير المسلحة أمر لم يتوقعه الكثيرون من المصريين. كان الكثيرون يعتقدون، عن براءة أو ربما عن سذاجة، أن الإخوان لن يسلكوا أبداً الطريق القمعي ظناً منهم أن قادة الجماعة الذين اختبروا قسوة ومرارة الألة الأمنية في فترتي حكم عبد الناصر ومبارك لن يذيقوا الشعب المصري قسوتها ومرارتها من جديد. لكن الإخوان، كما عهدناهم، خيبوا الظنون.

وإذا كان العنف في التظاهر مرفوضاً شكلاً وموضوعاً، فإن التعامل الأمني الغشيم الذي يذهب ضحيته العشرات ليس له ما يبرره على الإطلاق تحت أية ضغوط أو ظروف.وإذا كان الإخوان يلجأون إلى القمع الأمني واستخدام الأسلحة والذخيرة الحية ضد المتظاهرين فلماذا إذن يحاكمون مبارك ورجال نظامه بتهمة استخدام الأسلحة النارية في مواجهة متظاهري يناير ٢٠١١؟ ألم يكن رجال الأمن في تعاملهم العنيف مع المتظاهرين، عندئذ، يملكون نفس الحجج التي يستخدمها الإخوان اليوم ويظنون أنهم يحمون المنشآت العامة ويمنعون التخريب ويحافظون على الأمن العام؟ ولماذا لا يقبل الإخوان وهم في السلطة بمواجهة المتظاهرين لرجال الأمن؟ ألم يقم الإخوان المسلمون قبل عامين بحرب تكسير عظام ضد رجال الشرطة؟ ولماذا يغضب الإخوان من حرق مقارهم؟ ألم يقم الإخوان المسلمون بحرق مقار الحزب الوطني والاعتداء على مراكز الشرطة؟ ولماذا يهاجم الإخوان أهالي بورسعيد بالأسلحة النارية عند محاولتهم اقتحام سجن المدينة؟ ألم يقم الإخوان المسلمون بمهاجمة السجون وتهريب قادتهم بمن فيهم رئيسهم الحالي محمد مرسي في يناير؟ ولماذا يطالب الإخوان المصريين باحترام القضاء؟ ألم يكن محمد مرسي هو من أسس لخطيئة عدم احترام القضاء؟ وألم تقم التيارات الإسلامية، بمباركة بديع ومرسي، بمحاصرة المحكمة الدستورية لمنعها من اتخاذ قرارات لا تروق لهم؟

لماذا إذاً التعامل بمكاييل مختلفة مع نفس الخطايا؟ إذا كان الإخوان المسلمون يظنون أن انتخاب رجلهم محمد مرسي يفتح أمامهم كل الأبواب المغلقة ويتيح لهم حرية التعامل مع المصريين بالطريقة التي يشاؤنها فهم مخطئون. المسئولية السياسية اليوم تختلف عنها في زمن مبارك لأن مرسي انتخب بطريقة شبه حرة بينما كان مبارك يترأس نظام شمولي. هناك فروق جوهرية في الالتزامات والواجبات والمساءلة الشعبية في الحالتين. فإذا كان الشعب قد جاء بمرسي فالشعب نفسه قادر أيضاً في أية لحظة على عزله إذا ما وجده مخطئاً.

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو ما مصير نظام حكم الإخوان المسلمين بعد جريمة قتل العشرات من المتظاهرين وإعلان حالة الطواريء لحماية نظام الحكم؟ مما لا شك فيه أن الجريمة أسقطت ورقة التوت الأخيرة التي كانت تخفي عورة النظام وأسقطت عنه أيضاً الشرعية اللازمة لاستمراره في الحكم. لا محمد مرسي ولا حكومته ولا حزبه ولا جماعته أصبحوا يحظون بالشرعية السياسية. هذه هي نهاية نظام الإخوان. ربما كانت نهاية النظام تختلف لو أن قادة الجماعة استمعوا منذ البداية لصوت العقل وتعاونوا مع التيارات السياسية الأخرى. كانت الأمور ستتغير تماماً ولسارت الأمور بسلاسة ولتجنبت مصر حالة الفوضى الثورية التي تعيشها هذه الأيام. لكن الإخوان أرادوا إدارة مصر على طريقة إدارتهم للجماعة بالأمر والطاعة وعلى من لا يرتضي مغادرة البلاد. بالأمر والطاعة والقطع تتعامل قيادة الجماعة مع أعضائها، وهكذا تريد الجماعة أن تعامل تسعين مليوناً من المصريين.

لم يعد الإخوان المسلمون جديرين بقيادة مصر اليوم. وهتافات quot;الشعب يريد إسقاط النظامquot; التي ملأت ساحات مصر في اليومين الماضيين تعبر تماماً عن إرادة ملايين المصريين الذين ساءهم حكم الإخوان المسلمين لبلادهم. ولعل قيام نظام الإخوان بقتل عشرات المتظاهرين وإعلان حالة الطواريء يؤكد أن الإخوان يسيرون اليوم في نفس الطريق الذي سلكته من قبل كل النظم العنصرية والدكتاتورية. هم في طريقهم مرة أخرى إلى الحظر كجماعة وإلى السجون كقيادات. لقد ظلت جماعة الإخوان قيد الحظر معظم سنوات حياتها ولكنها اعتلت السلطة في غلفة من وطنيي مصر الذين خدعتهم الألاعيب الإخوانية. ومن المؤكد أن ما ارتكبوه من جرائم بحق المصريين في الأونة الأخيرة يقودني للاعتقاد بأن تذكرة خروجهم من الحظر إلى السلطة ذات طريقين، ذهاب وإياب. الدماء التي أسالها الإخوان المسلمون في شوارع مصر في الأونة الأخيرة سيجعل من استمرارهم في السلطة أمراً مستحيلاً. سيعود من يتحمل مسئولية الدماء مرة أخرى إلى زمن الحظر والسجون، ولكن هذه المرة سيكون حظراً وسجناً مستحقين. لن ينخدع الواعون من المصريين بعد اليوم في تجار الدين، ولن يظن أحد مرة أخرى أنهم ضحايا أو مجني عليهم. الواعون يعرفون جيداً أن أيادي الإخوان ملطخة بدماء الأبرياء.


[email protected]