محطة استراحة: مع فريد الأطرش

وقد بذلتُ جهداً لتسجيل لقاء اذاعي معه، فكان يتعلل بكثرة أعماله، ويعدني بأنه سيفعل عندما يكون مهيئاً لذلك..

فلجأت الى الاستاذ حمد الرجيب الذي كان سفيراً للكويت في القاهرة في ذلك الوقت.. وكانت تربطه صلات طيبة بعدد كبير من الأدباء والفنانين، فمهد لي ذلك سبيل الالتقاء بفريد الأطرش.. وقد حرصتُ ألا تكون أسئلتي نمطية، كي لا تكون اجاباته تسير على نفس النمط..

* * *

- اطرح كل ما لديك وما تخافش مني.

- يا سيدي أنت عليك السؤال، وأنا عليَّ الاجابة!!

- الله!! أمال انت جايني ليه؟!

- شوف يا سيدي.. أنا أريحك، الكل عارف أنني من أسرة عريقة في سوريا، والكل عارف أنني أحد أمراء هذه الأسرة، ولأسباب سياسية شرحها يطول، اضطرت والدتي أن تفر من سوريا الى القاهرة مع أطفالها!!.. كنا ثلاثة، أخي فؤاد، وأختي (أسمهان)، وأنا.. جئنا الى القاهرة طالبين اللجوء، وفعلاً تمت الاتصالات على أعلى المستويات، ومُنحنا اللجوء بأمر من سعد باشا زغلول!! أظن هذه البداية جديدة عليك؟!

- امال أنا بتكلم هندي؟! أيوه لاجئ سياسي!!

- يا سيدي احنا ما كناش سياسيين ولا حاجة، ولكن الظروف السياسية في المنطقة في ذلك الوقت هي التي دفعت بوالدتي للبحث عن ملاذٍ تلجأ إليه هي وأطفالها، فاختارت القاهرة!! آدي كل الحكاية!

- ماله الفن؟!

bull; ماهي العوامل التي ساهمت بجعلك فناناً، وكذلك أختك أسمهان قد احترفت الفن الأخرى؟!

- لو أردت أن أوري لك الحواديت كلها لاحتجت الى مجلدات!! ولكن باختصار أقول لك : إن بذور الفن كانت مغروسة أساساً في العائلة، فوالدتي كانت تعزف عى آلة العود، وأسمهان كما يعرف الجميع كانت تتمتع بحنجرة نادرة، وأنا من صغري أجيد العزف على العود، وأقوم بالغناء.

- أبداً.. كانت مسدوداً ومليئاً بالأشواك، والقطران كمان!!

- شوف ياسيدي، بعد أن ضاقت بنا الحال صرت أمارس الكثير من الأعمال البسيطة، أوزع إعلانات في الشوارع، أركب العجلة، وأقوم بإيصال حاجيات من مكان الى آخر، كذلك أخي فؤاد صار يعمل هو الآخر بمهن متواضعة، أما أسمهان، فكانت تساعد والدتها في شغل البيت.. الى أن استطعت الوصول الى السيدة بديعة مصابني، وصرت أقدم بعض الوصلات في مسرحها.. فبدأت الأحوال تتحسن، ومن خلال بديعة مصابني تعرفت على الكثير من الفنانين والمشاهير، مما أتاح لي فرصة إبراز مواهبي، ثم توالت الأعمال الفنية، التي أوصلتنا الى فيلم (انتصار الشباب) وكان من بطولتي وبطولة أسمهان بالاشتراك مع يوسف وهبي وأنور وجدي، وعدد كبير من مشاهير الفنانين في ذلك الوقت.

bull; ألا ترى أستاذ فريد أنك اختزلت واختصرت أحداثاً كثيرة لتوصلنا الى هذه النتيجة بكثافاة متناهية؟!

- والله إذا كان في ذهنك سؤال يتعلق بشيء أنا لم أشير إليه، بمقدورك أن تطرحه..!!

- نعم، هي كانت تجيد العزف على العود، ولكن لم تكن محترفة فن، كانت لها علاقات وصداقات مع شرائح عديدة في المجتمع حيث كان الجميع يعاملها كأميرة من عائلة سلطان باشا الأطرش، وهو البطل الذي وقف في وجه الاستعمار الفرنسي، وهي كانت فخورة بهذا الشرف، وكذلك نحن!!

- (محتداً).. أولاً لا يجوز نكأ الجراح، لأن مصرع أسمهان جرح لم ولن يندمل الى آخر العمر، واسمهان بعد أن حصلت على شهرة واسعة، كان عليها أن تقوم بواجبها الوطني حيال وطنها، فكانت تتحرك في محاور الفن من ناحية والسياسة من ناحية أخرى، وهذا أمرٌ طبيعي، لأنها وريثة عائلة مناضلة في مواجهة الاستعمار.. وبكل أسف حاول البعض أن يفسر نشاط اسمهان السياسي بتفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان، ولذلك من فضلك تقفل على هذا الموضوع!!

- العفو!!

- أنا عندما أقوم بتلحين أغنية لمطرب أو مطربة، فإنني أصيغ لحنها وفقاً للإمكانيات الصوتية الخاصة بذلك الصوت، يعني أنا لا أقوم بتفصيل اللحن على مقاس المطرب أو المطربة، ومقاسي أنا، وعلى سبيل المثال.. فإن أغنية (على الله تعود) التي لحنتها لوديع الصافي كانت بالأساس لي، لكن وديع سمعها أثناء البروفات، فطلبها مني، ولكنني قبل أن أوافق على أن يقوم وديع بأدائها، أدخلت عليها الكثير من التعديلات التي تتناسب مع خصائصه الوديعية، ولهذا فإن هذا اللحن صار من أغنيات وديع الخالدة وليس من أغنيات فريد الأطرش، إنما من ألحان فريد الأطرش فقط.. فعبد الوهاب يفكر في هذا الأمر تجارياً وليس فنياً، لأن معظم الأغنيات التي لحنها للآخرين، ثم قام هو بغنائها فقدت عنده خصائصها الفنية، فهو لم يكن أفضل من فايزة أحمد في (ست الحبايب)، ولم يكن أفضل من نجاة في (ساكن قصادي)، ولم يكن افضل من أم كلثوم في (أنت عمري)، ومع ذلك غنى كل هذه الأغنيات معتمداً على سمعته كمطرب وليس كملحن، وعبد الوهاب في الكرنك والجندول وكليوبترا كان عبد الوهاب المطرب، أما عندما يغني أغنيات قام بتلحينها لآخرين، فإنه يكون عبد الوهاب المقلد.. وأنا لا أعمل ذلك لأنني لا أريد أن أقلد أحداً، فأنا عندي من أغنياتي ما يكفيني، فلماذا ألجأ الى أغنيات قمت بتلحينها لأصوات أخرى؟!

- (مقاطعاً).. عارف.. عارف.. لماذا لم تلحن لأم كلثوم، أليس هذا سؤالك؟!

- شوف يا سيدي أنا ماعرضتش، وهي ماطلبتش.. إنما جرت محاولة قام بها مأمون الشناوي علشان ألحن أغنية الربيع لأم كلثوم، لكن محاولته لم تلقَ التشجيع لا مني ولا منها!! ومع هذا فأغنية الربيع أخذت شهرتها أكثر مما لو غنتها أم كلثوم!!

- لا فجوة ولا حاجة، كل ما هنالك أن الأفلام الغنائية الاستعراضية التي عملها فريد الأطرش لقيت نجاحاً منقطع النظير، بينما أفلام الكثير من المطربين الكبار لم تلقَ ربع ذلك النجاح!!

- ليس أفلام أم كلثوم وحدها!!

- وغيرهم.. وغيرهم..

- مش فاهم؟!

- أولاً : أنا علاقتي بالاستاذ عبد الوهاب، هي من أمتن العلاقات في الوسط الفني، وبيننا مودة ومعزة كبيرة، أما الذين ذكرتهم فلم تأتي الصدف لعمل مشترك بيني وبينهم!!

- أنا بطبعي لا أغني أغنيات غيري، ولكن بالنسبة لعبد الوهاب بالذات، حصل مرة غنيت له أغنية بناءً على رغبة إنسان عزيز علينا إحنا الاثنين، وهو الأمير بدر بن عبد العزيز، الذي وعدني أنه سيحتفظ بها لنفسه ولا يسمح بنشرها أبداً، وقد صدق الأمير بوعده.

- والله السياسة شيء والعلاقات الانسانية شيء آخر، فالملك حسين أكرمني بوسام الشرف من الدرجة الأولى، وصور الأمراء السعوديين والكويتيين أعلقها لأنهم وقفوا معي في أحلك الظروف!! ثم ما علاقة الصورة بالموقف السياسي؟! أنا رجل فنان وعلاقتي بجميع الناس هي من خلال الفن، وكثيرون قالوا لي : شيل هذه الصور، فرفضت!! ومع ذلك فقد دخل بيتي العديد من الكبار المسؤلين المصريين، ولم يعترضوا على وجود هذه الصور!!

- حصل!! ولكن المحاولة فشلت وتسببت لي بخصومة مع صديقي المخرج هنري بركات!!

- ياسيدي أشار عليَّ بعض الأصدقاء بقراءة قصص لكبار الكتاب المصريين، لعلّي أتمكن من إختيار عمل أدبي يصلح لفيلم سينمائي أقوم ببطولته.. وفعلاً وقع إختياري على رواية الدكتور طه حسين (دعاء الكروان)، وكلفت الأستاذ هنري بركات بكتابة السيناريو والاخراج، ولما قرأ بركات الرواية تجاهل الموضوع، ولما ألححت عليه قال لي بالحرف الواحد : أولاً : إن المهندس الزراعي الذي اعتدى على هنادي، هو انسان ندل تقوده نزواته وشهواته، وهذا لا يتناسب مع شخصيتك، ثانياً : أنت مطرب، والمطرب في العادة لا يكون ندلاً وشريراً وسكيراً ويعتدي على الفتيات البريئات!! فقلت له مش مهم أغني، المهم أمثل دور المهندس الزراعي!!.. فكان رد بركات :

هناك ممثلون يستطيعون تأدية هذا الدور أفضل منك، فلماذا أضحي بمطرب استعراضي ناجح لممثل (نص ونص).. طبعاً بعد هذا الكلام حصل زعل وخلاف بيني وبين بركات، ولم نتعاون بعدها أبداً، ولكن لما شفت فيلم دعاء الكروان بطولة أحمد مظهر والسيدة فاتن حمامة، أدركت أن بركات كان على حق، ولكن بعد فوات الأوان!!

- مش فاهم!!

- أنا لا أعرف إذا كان ما تقوله صحيحاً أو حقيقياً، ولكنني ألمس إعجاب الناس في كل مكان في العالم الذي أزوره، وأجد أن عدد المعجبين يفوق بآلاف المرات أولئك الذين لا يعجبون بي!!

- عاوز تقول إيه من هذا السؤال؟!

- (محتداً).. أولاً : هناك بعض الأغاني يتم تاليفها خصيصاً لتتناسب مع مشاهد سيناريوهات الأفلام، ومنها تلك الأغاني التي ذكرتها في سؤالك، ثانياً : (يعني تراعيني قيراط أراعيك قيراطين) لعبد الوهاب، كلامها رفيع المستوى جداً؟!! ثم لاتنسى (أول همسة)، و(الربيع)، و(عدت يا يوم مولدي)، و(سألني الليل)، والمئات من الأغنيات الأخرى الناجحة!!

- مش عايزهم!!

- هي محاكمة ولا مقابلة؟!

- معنى كده إن عندك أسئلة أخرى؟!

- اتفضل!!

- أنا عارف أنك تريد الوصول من خلال هذا السؤال الى علاقاتي مع زميلاتي الفنانات، أحب أن أقول لك، الفنانة سامية جمال شبه معتزلة، وهي زوجة صديقي الفنان رشدي أباظة، ولذلك أي حديث عن علاقتي السابقة مش هاجاوب عليه!!

- ولا حاجة!! لأن شادية زوجة صديقي صلاح ذو الفقار، وبلاش نكش في ماضي مالهوش فائدة!!

- وهي من بيت المقدسي، مش كده؟!

- ياسيدي إذا كانت زيجة سرية كما تقول، وأنا أتكتم عنها، يبقى كيف عرفها الناس؟!.. ثم لماذا إذا كنت متزوجاً لا أعلن هذا الزواج؟! وأخلي الناس تشوف بنتي المزعومة؟! الكلام ده كله كلام فارغ، وأنا مرتبط بصلة صداقة طيبة بعائلة المقدسي، ويمكن هو ده السبب اللي خلا البعض يتوهم أشياء لا أساس لها من الصحة!!.. عندك أسئلة كمان؟!

- لا معلش، خلِّ الكلام في الحلقة الثانية!!

bull; شكراً..