مع ظهور الظروف الجديدة التي تحكم تطور العالم اليوم.. ظهرت العديد من الأفكار والمفاهيم حول المستقبل الذي ينتظر هذا العالم.

فبعض المفكرين أُصيبوا بلسعة قوية لم تفارقهم آثارها حتى هذه الساعة، بعد إنهيار عالم الأقطاب الكبرى وظهور أحادية القطب الذي بإستطاعته التحكم بالمصير اللاحق لتطور البشرية والكرة الأرضية.. لذلك ذهب هذا البعض من المفكرين إلى البحث في بطون الكتب عن المقولات الفلسفية، والنظريات الإقتصادية، والدفاتر القديمة، لإيجاد فهم خاص للصيغ الجديدة ومطابقتها بواقع التحولات الجارية، بغية قراءة المستقبل ووضع تصورات عقلية حول العقود القادمة وما بعدها.
وخلاصة القول.. إن منطق الحروب الكبرى أخذ يضمحل أمام رسوخ منطق الحروب الإقتصادية، حيث أخذت التكتلات الإقتصادية العملاقة تزحف من خلال شبكة هائلة من الشركات الفوق قومية التي أخاطت نسيجاً كونياً عاماً شمل أصغر جزء من أجزاء العالم.
وإن قمة هذا النسيج يدعوه البعض من المفكرين quot; بحكومة الظل العالمية quot;.. وهذه الحكومة غير مرئية للناس، ولكنها تمارس كل أنواع الإدارة من خلال تسويق البضاعة.
فالعالم بمنظور بعض المفكرين أصبح عبارة عن قرية صغيرة تصلها البضائع ووسائل الإعلام بلمحة بصر.. وخاصة بعد تطور الوسائل التكنولوجية الحديثة.. ومن هنا فإن البعض ممن يحاول أن يعطي نزعة الربح والإستهلاك التي تنشط في سبيله حكومة الظل العالمية طابعاً إنسانياً حضارياً، حيث يعود إلى حصيلة المفاهيم الفلسفية القديمة أو بعبارة أخرى إلى النظريات الإنسانية السابقة، وبخاصة نظريات بابوف الذي دعا فيها أواخر القرن الثامن عشر إلى خلق quot;التنظيم الأوروبي الموحد quot;.. أي الوحدة الأوروبية التي بإستطاعتها قيادة العالم.. وكذلك مفاهيم سان سيمون الذي دعا إلى إيجاد صيغة quot; التنظيم العالمي quot; الذي يبرز في قيادته العرق الأوروبي المتفوق على كافة العروق البشرية حسب تصوره.. فضلاً عن كونستانتان بيكير الذي طرح أواخر القرن الثامن عشر مفهومه الإنساني من خلال دعوته إلى وحدة العالم، ووحدة قيادته، ولكن على أساس روحي لا يستدعي تقسيمه إلى أمم مختلفة وذات لغات مختلفة ونظم تركيبية ونزاعات دموية.. وطالب أيضاً أن يتحول العالم إلى مجتمع واحد، وعائلة واحدة، توحد قواها لإقتحام هذا الكوكب والسيطرة عليه.. تمشياً مع مقولة: quot; إن التفرق إلى أمم هو من مخلفات البربرية quot;.
ولكن جوزيف برودون الذي إنتشرت أفكاره بشكل واسع في منتصف القرن التاسع عشر كان أكثر وضوحاً، حيث دعا إلى قيام حكومة عالمية ذات طابع إشتراكي مشيراً إلى زوال الدول وظهور أوروبا كدولة quot; كونفدرالية لكل الكونفدراليات العالميةquot; هو الذي سيسود العالم في المستقبل.
واليوم يتضح لنا من خلال تصورات البعض من المفكرين أننا نحن العرب لابد أن نتحسس مكاننا وموقعنا في هذه التوليفات أو التركيبات العالمية المقبلة التي بدأت ملامحها تظهر إلى الوجود بظهور الدعوة إلى الوحدة الأوروبية المتحققة.
وإذا جاز لنا أن نرى موقعنا نحن العرب، أو إذا جاز لنا أن نتفق أو نختلف مع هذه النظريات، وهذا شيء طبيعي، فإن متطلبات الفكر العصري تلزمنا أيضاً أن نضع تصوراتنا لمستقبل حياتنا كأمة، وكدولة، وكبقعة شاسعة من هذا العالم المتراخي.. وفي كل الأحوال لدينا من الإمكانات والطاقات البشرية والمادية ما يجعلنا أن نحتل مكاناً متقدماً في أي صيغة عالمية مقبلة، ولكن بعد أن نتوحد في نظرتنا في ايجاد صيغة نستظل تحت رايتها، تحكمها المعاهدات والقوانين التي تُنظم عالم العرب بعد التمزق والتشرذم الذي ابتُلينا به في العقود الماضية!!..