نقلت وكالات الأنباء مؤخراً أن ماركيز بعد أن إجتاز مرحلة الكآبة، دخل في مرحلة (الرعاش) Parkinson.. مما أصاب عُشاق أدبه بالحزن على أديبهم الكبير..
وهذا ما عاد بي الى البحث عن رسالة كان قد بعث بها إليَّ مثقف عربي قد تيسر له أن يلتقي بماركيز، ودار بينهما حوار تخللته الصراحة، حيث قال له ممازحاً:
- إنكم لشد ما تبعثون في نفسي الغرابة يا معشر العرب!.. وإني لشديد الحيرة لأمركم.. ففي الوقت الذي تواجهون فيه شتى أنواع المآسي والحروب، ناهيك عن الإبادة لثرواتكم والقتل اليومي في المعتقلات في بلادكم بسبب الطغاة الذين يحكمونكم، ومع كل هذا فإنكم تضحكون وتبتدعون النكت المعبرة عن مأساتكم، وسمعت لكم قولاً معناه: أن شر البلية عندكم، ما يضحككم!!..
وأضاف ماركيز الحائز على جائزة نوبل قائلاً للمثقف العربي:
كنت أترقب ما حل بكم بعد الحرب عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين، وكنت أتابع خطب ومواقف عبد الناصر الذي كان قلبه يدمي، ولكنه لم ينسَ روح الفكاهة والدعابة حتى في خطاباته السياسية المأساوية..
بينما نحن في أمريكا اللاتينية، لم نضحك طوال هذه السنين في حين أن المعروف عنا أننا من الشعوب التي تحب المرح والغناء والموسيقى والرقص، ولكن طغيان الساسة على حياتنا، قد أنسانا حتى حاجتنا إلى الضحك..
فأجابه المثقف العربي: نحن أيضاً مررنا بهذه المرحلة، لكننا خلطنا بين الضحك والسياسة.. ولكن لا ننسى الضحك كوسيلة أساسية لحياة الإنسان، وبالطبع عندما يكون له مبرر.. فقد حولنا النكتة إلى سياسة فأصبحت معروفة في قاموسنا بالنكتة السياسية.
فقال له ماركيز: لقد قرأت العديد من الدراسات التي إشتملت على تاريخ العرب، وقارنت بينها وبين تاريخنا في أمريكا الجنوبية، فوجدت أن الأساطير العربية قد تدخلت في تاريخنا، وخاصة تلك التي تروي عن الكرم والبطولة والشهامة والفصاحة.. فهذه صفات تكاد أن تكون قواسم مشتركة بيننا، فأنا وريث الإسبانية، وتاريخي من تاريخ الأندلس الذي زرعتم فيه حضارة طيلة الثمانية قرون التي مكثتم فيها، وكانت علومكم مصدراً من مصادر الإشعاع.
لذلك كنت حريصاً على الإمساك بروحية التراث العربي وإعطائه جاذبية محلية من محيط أمريكا اللاتينية.. والسبب - كما يقول ماركيز - أنني وجدت العرب طوال تاريخهم يميلون أو بالأحرى ينتظرون البطل الفرد.. البطل الذي يخلصهم من الظلم ويملأ أرضهم بالعدل، لكي يقتص من الحاكم الجائر.
ولست أدري هل لازلتم تنتظرون ذلك البطل في أدبياتكم ومعطياتكم الفكرية ؟!..
فرد عليه المثقف العربي: إن العالم العربي منذ أقدم الأزمان وقبل الهجرات السامية من شبه الجزيرة العربية، وفيما بعد الهجرات هو موضع طمع للأجانب الذين كانوا يتحينون به الفرص لكثرة خيراته وحجم ثرواته وسعة أراضيه الزراعية.
وامتدت هذه الأطماع، لكي تجعل الأجانب يوجدون لهم أعواناً في بلادنا من أبناء وطننا، وساندوا هؤلاء الأعوان كي يصبحوا حكاماً علينا ليحققوا لهم ما يريدون.. حتى تحول الوطن العربي إلى إقطاعيات خاصة يسيطر عليها حفنة من أناس لا يتجاوز عددهم أصابع اليد.
وكان الشعب وهو المالك الحقيقي لكل ثروات الوطن، يرزح تحت نَيْر هؤلاء الظلمة.. ماعدا مراحل معينة وبسيطة مارس فيها العربي حريته فخرج إلى العالم بحضارة لازالت آثارها شاهداً عليها حتى اليوم..
بسبب أن الله قد منَّ عليهم بقادة وحكام زاهدين ومخلصين وحضاريين، فكان جواب ماركيز الحاصل على جائزة نوبل:
إنني لشديد الحزن كغيري من المثقفين من أبناء أمريكا اللاتينية أن أرى حالة العرب وهم يغوصون في إشكاليات تكاد أن تبتلعهم كما الرمال المتحركة، في حين أنهم ليسوا مسؤولين عنها، وإنما هناك تآمر عليهم يحيط بهم من الداخل والخارج.
فقال المثقف العربي للقاصّ اللاتيني المعروف: لا تحزن ولا تبتئس لأن عمر الكفاح من أجل الديموقراطية يكاد أن يمتد إلى قرون، ومع هذا لم تتحقق الديموقراطية كلية..
ونحن في الوطن العربي قد خطونا الخطوات الأولى نحو هذا الهدف السامي، فبالديموقرطية نستطيع أن نستعيد مجدنا، ونبني مجداً جيداً، وبالديموقرطية سندافع عن حقوقنا ونكسب إحترام وتقدير العالم.
قال ماركيز: نعم والديموقراطية هي سلاح الشعوب الذي تشهره في وجه الظلم، وبوجود الحاكم الفرد الذي يظن أن فرديته هي الضمانة الوحيدة للحضارة الإنسانية..
* * *
bull;إن المثقف الذي أجرى هذا الحوار مع ماركيز منذ خمسة عشر عاماً كان قد وافاني به بشريطٍ كي يذاع ضمن مواد برامج إذاعة (كل العرب) التي كنت أديرها في لندن.. والحوار أطول من ذلك بكثير، والذي حال بينه وبين أن يُذاع أن المثقف واسمه العلماني كان يجيد الاسبانية، ويترجم منها الى العربية البحوث والقصص، وكان يتحدث الى ماركيز بالاسبانية وماركيز يجيبه بالاسبانية بالطبع، لكنه مع هذا قد ترجم لي في رسالته وريقات إختصرتها بما قرأتموه!!..