عودتنا حلبة الصراعات السياسية بين الدول على سماع الكثير من المصطلحات الهجومية التي تحمل في ظاهرها مسحة حضارية، ولكنها في الجوهر تعبر عن غرض سياسي له دوافعه الخاصة وأهدافه وتوجهاته.
ومن بين هذا المصطلحات، مصطلح (التجرد) الذي أصبح على لسان كل مسؤول يريد أن يرمي مناوئه الآخر بحجر ويُسكت أنفاسه، أو أن يجعله مطوقاً بحملة ظالمة أساسها (عدم التجرد) في طرح الحقائق والوقائع والأدلة المشروعة، وبذلك يكسب نصف المعركة.
والمعركة هذه قد تكون بين دول أو بين شعوب أو بين أمم، ولكن لماذا نحن العرب كثيراً ما نلاحظ أن المسؤولين في الإدارات الأمريكية المتعاقبة وعلى مر العقود الماضية إلى وقتنا الراهن كانت دائماً في حالة تجرد تجاه اسرائيل، ولكنها بعيدة جداً عن تجردها تجاه العرب؟!.
هذا السؤال ليس وليد اليوم بقدر ما هو وليد التجارب الكثيرة التي مرت بها الأمة العربية منذ مطلع القرن الماضي وحتى الآن.. إنه سؤال مبني على الوقائع التي لا حصر لها مطلقاً في مواقف الولايات المتحدة تجاه قضايا العرب الشرعية.
وخير مثال على ذلك، هو أن الولايات المتحدة متى ما أرادت أن تضغط على احدى الدول العربية لتوقيع إتفاق يرمي الى صالح إسرائيل تسحب من بين أدراج مكاتبها تقريراً يكشف عن كون الدولة العربية الفلانية التي تقف بقوة في مواجهة إسرائيل، قد شجعت بشكلٍ كبيرٍ الإرهاب الدولي وأمدَّته بكل المساعدات !!.. فقد اتهمت واشنطن في فترات سابقة ليبيا، وسوريا، ولبنان، وحتى الأردن والعراق ومنظمة التحرير بالإرهاب.
بيد أن المعادلة الأمريكية لا تلبث أن تكشف زيف هذا الإدعاء حينما تقول سوريا ولبنان والأردن ومنظمة التحرير بأنهم مستعدون للتوقيع على إتفاق التسوية العادلة المبنية على قاعدة (الأرض مقابل السلام) أو (الدولة الفلسطينية) وتذهب وفودٌ من هذه البلاد إلى واشنطن والدول الأوروبية وغيرها لتأكيد هذه التوجهات.
مِن هنا، فإن إسرائيل في نظر الولايات المتحدة دولة مسالمة وديموقراطية ولا تشجع أو تمارس الإرهاب مُطلقاً، وأن حروبها مع العرب، وعمليات الإغتيال والإختطاف التي يمارسها الموساد ضد المتعاونين مع العرب في الخارج، إنما هو دفاع عن النفس، ولكن وفي نفس الوقت الذي تُشهر فيه الولايات المتحدة سلاحها بوجه البلدان العربية مُتهمة هذه البلاد بالإرهاب، تقوم وزيرة الخارجية الأمريكية بزيارتها واللقاء بقادتها، فإذا حصلت منهم على وعود نافعة يختفي سجل الإرهاب عن هذه البلدان، وإذا وُجِدَ أن هنالك إصراراً على حل القضية حلاً عادلاً وجذرياً، يظهر سجل الإرهاب في الصحافة الأمريكية ووسائل الإعلام الأخرى.
وأبرزُ حادثةٍ بهذا الصدد، هي شهادة الرئيس الأمريكي السابق (بيل كلينتون) التي أطلقها عندما زار سوريا فقال : أنه بلد آمن مستقر ولا يُشجع الارهاب، لماذا؟
لأن بيل كلينتون كان يطمع من سوريا أن توقع على إتفاقية تضمن له أن تتفاوض سوريا مع اسرائيل، وتوافق على التسويات التي تمت بينها وبين بعض الدول العربية!
ولكن بعد يومين فقط، حينما وقع ياسر عرفات وإسحاق رابين على وثيقة تنفيذ الحكم الذاتي في القاهرة، وعارضت سوريا ذلك الاتفاق، وإذا بواشنطن تُفجر قنبلتها حول تشجيع الإرهاب ضد سوريا، فاختارت وزارة الخارجية الأمريكية موعد إصدار تقريرها السنوي عن الإرهاب بحق سوريا التي إعتبرها تتصدر الدول الداعمة للإرهاب، في نفس الوقت الذي وقع فيه إتفاق تنفيذ الحكم الذاتي بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، بل وفي ذات الوقت الذي كان يتجول فيه وزير الخارجية الأمريكية (كريستوفر) في المنطقة لدعم عملية التسوية.
أين اذنْ quot; التجرد quot; الأمريكي تجاه العرب، بات واضحاً أن واشنطن لا تريد من العرب إلا الركوع للمطالب الإسرائيلية، ولماذا لا تضغط على إسرائيل للتخلي عن الأراضي العربية المحتلة بقوة السلاح الأمريكي ومن بينها مرتقعات الجولان السورية؟!.. لقد أعطى مؤتمر القمة العربي الذي عُقد في بيروت ضمانات كاملة لاسرائيل وللادارة الأمريكية بأن تحفظ سلام وأمن المنطقة متى ما جرت تسوية حقيقية وشاملة للقضية الفلسطينية، وغيرها من القضايا الأخرى العالقة، كالجولان وشبعا والتوقف عن بناء المستوطنات، لكن اسرائيل تُصر على الاحتفاظ بأجزاء هامة من الأرض العربية وأهمها الجولان والقدس!!
فهل بمقدور واشنطن إثبات (تجردها) المزعوم، أم أنها تراهن على نجاح عدم تجردها الدائم بسبب عدم اتفاق ndash; وخيانة بعض ndash; الساسة العرب؟!..
نُبشر الادارة الأمريكية، أن أكثر الساسة الخونة من العرب ممن تعتمد عليهم قد أسقطهم الربيع العربي.. والبقية تأتي إن شاء الله.. وإن تظاهر الأمريكيون بأنهم يقفون مع ديموقراطية الشعوب وأنهم يؤيدون الربيع العربي.. لكن التجارب علمتنا أن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين.. وما أكثر ما لدغتنا أمريكا!!..