عند كل إنعطافة تاريخية يشهدها العالم، تثار الكثير من التساؤلات حول مؤثرات هذه الإنعطافة على واقع ومستقبل التطور الحضاري للأمة العربية.
ومثل هذه التساؤلات تندرج تحت مفهومي الأصالة والمعاصرة، بإعتبارهما أهم القضايا التي تشغل بال المفكرين العرب في الوقت الحاضر.
فلأصالة هي المخزون التراثي للغة والتاريخ والثقافة والأفكار والقوانين والشرائع والعلوم وما إلى ذلك من معطيات إنسانية يتراكم فيها رصيد الأمة من الجهد البشري الإبداعي.
وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الجهد لابد وأن يحمل معه شوائب سلبية ومفاهيم متخلفة تعيق تطور العملية الحضارية عموماً.. فالذي يستمع الى تصريحات السلفيين ممن نجحوا في الانتخابات المصرية يُصاب بدهشة مفزعة.
ومن هنا، فإن موضوع المعاصرة عند بعض التيارات الفكرية العربية التي لا تريد أن تخرج عن إطار المألوف، المحكوم بالعادة المتوارثة بقدر ما تريد أن تسلك طريق التجديد لما هو قديم في التراث والفكر والثقافة.
ولكن بعض المقلدين يعتقدون أن التوجه نحو المعاصرة إنما يفقد العرب هويتهم القومية ويقطعهم عن جذورهم وتقاليدهم الحضارية بإعتبار أن النموذج الغربي لا يمكن أن يعبر عن إرادتهم القومية وتطلعاتهم الحضارية.. فالعرب لم يختاروا ما تبقى لديهم من نموذج تراثي وأعني الموروث من الماضي، الذي يحتمي داخلهم عندما يجدون أنفسهم معرضين لأي تهديد خارجي.
وهل هناك من تهديد خارجي أكثر من استفزاز الذات وأكثر خطورة على الهوية والأصالة والخصوصية من زحف نموذج حضاري على نموذج حضاري آخر؟!.
وعلى ما يبدو، فإن مجتمعاتنا العربية، ولربما كل أقطار العالم الثالث أصبحت تعاني من إزدواجية في التعامل مع المعاصرة في مختلف المستويات العمرانية والإقتصادية والإجتماعية والإدارية والثقافية.. إزدواجية تتمثل بوجود قطاعين أو نمطين من الحياة الفكرية والمادية، أولهما: quot; عصري quot; مستنسخ عن النموذج الغربي ومرتبط به إرتباطاً تابعاً.. وثانيهما: quot; تقليدي quot; أو quot; أصلي quot; أو quot; أصيلquot; هو إستمرار للنموذج التراثي في صورته المتأخرة المتحجرة والمتصلبة، بحيث انعكس ذلك على وعينا ونمط تفكيرنا.
ففي حين نقبل هذه الإزدواجية على كافة الأصعدة وخاصة الإقتصادية والخدماتية، فإننا نرفضها على صعيد الحياة الفكرية والسياسية.. وخلال هذين السياقين تظهر في بعض الأحيان مواقف جذرية quot; راديكالية quot; ndash; خطابية فقط ndash; وسلفية، بعضها يدعوا إلى رفض كل المظاهر الحديثة في حياتنا، بل وفي العالم كله ويصفها بـquot;الجاهلية quot;، وبعضها الآخر يدعو إلى التخلي عن المظاهر الموروثة من ماضينا ونعتها بـ quot; التخلف quot; و quot; الرجعية quot; في مواجهة تحديات العصر.
إن ما نسميه نحن بتحديات العصر، إنما نبتعد به قليلاً عن رصد وتحليل الظواهر الحضارية وإنعكاساتها على الواقع العربي.. فتحديات العصر بالنسبة للعرب ليست تحديات آتية من الخارج، بقدر ما هي بنت حاضرهم ونتيجة لمسلسل التطور الذي يرتبط بهم قبل غيرهم.. فهذا العصر لا يمكن أن يتحداهم لأنه عصرهم أيضاً، فقد شيدوا أساسه هم وليس غيرهم منذ بزوغ فجر الحضارة، حيث ساهموا مع العالم بالحِرف والشرائع الدنيوية والسماوية والفلسفة والأدب والشعر والفنون وكذلك العلوم وبخاصة الطب.. وخير شاهد على ذلك متاحف الغرب ومكتباته الزاخرة بآثار الشرق الحضارية المتألقة.
صحيح أن تاريخنا الثقافي والفكري يرتبط في وعينا بالمكان قبل الزمان، وصحيح جداً أننا نفخر بعوالمنا الحضارية التي تعطينا حافزاً جديداً لمواصلة المسير نحو البناء الحضاري الإنساني، فتاريخنا مرتبط بمكة والمدينة والكوفة والبصرة ودمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وفاس وقرطبة، وهو تاريخ غرناطة وصقلية وأصفهان وبخارى، إنه تاريخ عتيد كوّن اللبنات الأولى في صرح الحضارة الإنسانية التي تتطور بإستمرار.. ولكن ليس من الصحيح أن العرب بقوا يندبون الماضي وينزوون في زواياه دون أن يقدموا شيئاً جديداً ومتفتحاً من المعطيات الحضارية المبدعة.
إن حالة التأخر التي عاشها ويعيشها العرب لم تكن بسبب عدم قدرة العقل العربي على الابداع، وإنما بسبب الغزوات الأجنبية والحروب الظالمة والإستعمار الأوروبي البغيض، فضلاً عن تسلط بعض الحكام العرب المعادين لشعوبهم، الذين كانوا ولازالوا يقفون حجر عثرة أمام تقدم بلدانهم، بل إنهم بدلاً من نشر الثقافة والمعرفة، ينشرون الجهل والتخلف والتهميش، ولدينا العديد من الأمثلة على تخلف بعض الحكام العرب الذين اعتبروا شعوبهم غير جديرين بما هم أهل له، لذلك صبوا جام ديكتاتوريتهم على أبناء جلدتهم حتى أصبح من المتعذر بل وفي بعض الأحيان من المخجل أن ندّعي بأننا أصحاب حضارة لقنت العالم الدرس الأول بالكتابة المسمارية، والهيروغليفية، وحروف الأبجدية، والعلوم.. فإذا قلنا ذلك فسيكون جواب المعادين من الغربيين إذاً لماذا يتحكم بكم حكام جُلّهم من الأثرياء على حساب التطور في أوطانكم؟!.
وعند ذاك، لابد لنا أن نتوقف برهة لإستيعاب واقعنا من جديد ونلتقط أنفاسنا عسى أن نجد ثمة إجابة لمثل هذا السؤال المحير.. بل لعل ربيع العرب، الذي لازال يتعثر في خطاه يجد الإجابة على السؤال المصيري: هل نحن جديرون بالحرية والكرامة؟!.. هذا ما ستجيب عليه أحداث عام 2013 بعد أن مُهد لها الطريق عام 2011 و 2012.