تتجه أغلب التحليلات التي تحاول تفسير السلوك الأمريكي تجاه تطورات الأحداث في المنطقة إلى الاكتفاء على التأكيد على نية أميركا مغادرة المنطقة، وذلك عبر إستراتيجية جديدة ترتكز على ما جرى تسميته الذهاب شرقاً، أي التركيز على منطقة المحيط الهادي بسبب وجود مصالح أكثر أهمية لواشنطن من أي مكان أخر في العالم في هذه اللحظة العالمية.

كبار منظروا العلاقات الدولية، وبعضهم أميركيون، ذهبوا في هذا الاتجاه، وقد استندوا على جملة من المؤشرات، بعضها حقيقي والبعض الأخر جرى تطويعه لخدمة السياق التحليلي العام، ومن ضمن تلك المؤشرات تركيز تواجد القوة الأمريكية في المحيط الهادي، حوالي 60 بالمئة من القوة الحربية، وتصريحات بعض المسؤوليين الأمريكيين عن أهمية منطقة الهادي الاقتصادية والاستثمارية، وهو الأمر الذي فسره الكثير على أنه مؤشر للانسحاب من الشرق الأوسط نهائياً.
الواقع أن ثمة خلل ما في هذا التصور، تكشفه حقيقة الاهتمام الدبلوماسي الأميركي بالمنطقة، إذ أنه، وحتى اللحظة، لا تزال أغلب موارد الخارجية الأمريكية ووقتها تصرّفها على شؤون المنطقة وقضاياها، من المسألة السورية إلى قضية مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وما بينهما العلاقات مع السعودية ومصر وإيران، فالانخراط الأمريكي ضمن إطار هذه الملفات لا زال كبيراً وزاحما، وعلى المستوى الإستراتيجي لازالت السياسة الأمريكية تنطلق من إطار الإستراتيجية الكبرى التي تشمل كل الأقاليم العالمية، وما زيادة الاهتمام بإقليم معين سوى محاولة لمتابعة التطورات والإحاطة بها، وهذا شأن أي إستراتيجية ناجحة، وهو أيضاً تطور تستدعيه ظروف الأقاليم العالمية والمتغيرات الحاصلة فيها.
إضافة لذلك، ليس بإمكان واشنطن البقاء في مكانة الدولة العظمى الأكبر في العالم وممارسة سياسة الانكفاء تجاه منطقة حيوية ومهمة في العالم، وخاصة وأن دورها لا زال مرحباً به ، إضافة إلى أن مصالحها الاقتصادية والعسكرية لا زالت موجودة، وأنه من الإجحاف النظر إلى متغير واحد، كالاكتفاء الذاتي الأمريكي من النفط، وأن يتم على أساسه تقدير ذهاب واشنطن إلى بناء إستراتيجيات جديدة ومغايرة.
إضافة لذلك أيضاً، فإن الشرق الأوسط لم تتغير وظيفته الجيوإستراتيجية ولم يغادر مكانه بوصفه ميدان يتوسط العالم ويؤثر على أمنه ومستقبله، وأن القوى التي تتواجد به تستطيع التحكم بضبط تطورات عالمية كثيرة، كما تستطيع مراقبة العالم ومعرفة إتجاهاته، وهذه لا يمكن فصلها عن المصالح الأمريكية الكبرى التي لا يمكن حصرها في قضية الاكتفاء النفطي، أو البحث عن مصالح تجارية معينة.
التصور الأقرب للوقائع الجيوإستراتيجية أننا أمام نمط إستراتيجي أميركي جديد يقوم على إعادة صياغة وتشكيل الشرق الأوسط بطريقة جديدة، وليس الانسحاب منه، هذه الإسترتيجية الجديدة تقوم على نقيض إستراتيجية أمريكية دامت طوال نصف قرن ارتكزت على مبادئ معينة للحفاظ على هندسة ومعمار الشرق الأوسط القديم بأنظمته السياسية والاجتماعية وحدوده وضبط صراعاته وتفاعلاته، هذه السياسة انتهت اليوم، لكن مصالح أميركا باقية في أكثر من موضع وهي ليست في طور التخلي عنها أو تركها للخصوم والحلفاء يديرونها بالطريقة التي يريدون.
في إطار هذه الإستراتيجية ترك المنطقة تتشكل من جديد، وهذا الأمر ليس وليد اللحظة بل جرى الحديث عنه والتنظير له منذ بداية القرن فيما سمي في حينه quot;الشرق الأوسط الجديدquot; أو quot;الفوضى الخلاقةquot;، وهي وإن بدت بالنسبة لقاطني الشرق الأوسط على أنها سياسة تآمرية فهي بالنسبة للسياسة الأمريكية ليست سوى نمط أو طريقة لتسهيل التعاطي مع منطقة جغرافية معقدة، تستهلك الكثير من الإمكانيات والموارد، في حين بمكن إيجاد طرق جديدة لترشيد هذه العملية وتحقيق الجدوى منها بحيث تحقق مصالح واشنطن وليس بالضرورة أن تراعي مصالح سكان المنطقة أو قسم منهم.
أليات هذه الإستراتيجية الجديدة، قد تكون السماح للتعبيرات المختلفة، اجتماعيا وأيديولوجياً، وتطبيقاتها الحركية بالظهور، على شكل كيانات جديدة، حزبية أو دولتية، مثل ظهور الإخوان المسلمين كقوة فاعلة في المنطقة أو حتى ظهور كيانات سياسية على أسس عرقية وطائفية.
لا يمكن وصف هذه السياسة بالانسحاب، إذ لا يبدو أن الانسحاب يأتي لمصلحة طرف معين، فلا روسيا الغارقة بمشاكلها لديها القدرة على إدارة مناطق مأزومة، ولا إيران المنهكة والمتعبة قادرة على الاستفادة من هذا الانسحاب في ظل انتصاب حرب طائفية كفيلة بتدمير كل الفائض الإيراني، فما حجم استفادة إيران من العراق وسفنها تبحث عن موانئ تستقبل نفطها الذي تعرضه بأقل من السعر الحقيقي لتقوّت شعبها، وحتى إيران نفسها معرضة بدرجة كبيرة للخطر نتيجة المشاكل التي تنطوي عليها والتي لا تختلف بدرجة كبيرة مشاكل وأزمات بلد مثل سورية.
نحن أمام تجريب سياسات أميركية جديدة أكثر من انسحاب، ولكن بما أننا نقع بين حدي الانخراط والانسحاب لم نلحظ المتغيرات التي تتضمنها السياسة الأمريكية الجديدة، فأميركا لن تنسحب وتمارس سياسة اصطياد الفرص في المحيط الهادئ وظهرها مكشوف. كما أن النظام الإقليمي الشرق أوسطي يشكل جزئية مهمة من تفاعلات النظام العالمي ولا يمكن التعامل معه بهذه الخفة، والإستراتيجيات الكبرى لا تنسحب، تجرب، وتكمل أي تكن نتيجة التجريب، لكننا في الشرق الأوسط يجب ان ننتبه لحقيقة مهمة، أن أميركا سمحت للتعبيرات المختلفة بالظهور والتعبير عن نفسه،ا ومثلما لم تمانع بظهور التعبيرات السياسية لن تمانع أيضاً بظهور التعبيرات الكيانية، والشرق الأوسط، بلا استثناء، من مراكش حتى القوقاز، يقع على خط هذه التعبيرات.