يعتقد أن قيادة حركة النهضة الإسلامية في تونس يجب أن تكون ممتنة للمبادرة، و هي في واقع الأمر مجازفة، تلك التي أقدم على اتخاذها رئيس الحكومة السيد حمادي الجبالي مساء الاربعاء الماضي إثر اغتيال الشهيد شكري بلعيد، و أن تنظر إليها بعيدا عن منطق quot;العزة بالإثمquot; الذي طالما أخذها و ميز طريقتها في تحليل القضايا المطروحة و استصدار القرارات و بناء العلاقات مع الشركاء و الخصوم على السواء.
لقد تصرف السيد حمادي الجبالي بتجاوزه الشكلي quot; اللغو السياسيquot; الذي طال أمده حتى بدا ضربا من ضروب الانتحار، ليس فقط كرجل دولة مسئول أراد أن يعلو بنفسه عن صراعات الأحزاب التي لا تنتهي، بل كذلك كقيادي رئيسي لحركة النهضة، راغب في المساهمة بشكل فعال في تقرير مصيرها الذي هو اليوم على المحك، و في دفعها في الاتجاه الصحيح، اتجاه الشراكة الوطنية و الاعتدال السياسي و الوفاق الديمقراطي، و خلافا لإرادة الصقور الذين بدوا خلال اجتماع مجلس الشورى الأخير و كأنهم تيار الأغلبية، و الذين ثبت أن عددا كبيرا منهم لم يتمكنوا بعد من التخلص من هواجس الاستقطاب الثنائي و التطاحن العنيف الذي طغى على أجواء الجامعة التونسية خلال الثمانينيات من القرن الماضي.
و قد ثبت أن اغتيال الشهيد شكري بلعيد صدم فعلا قيادة حركة النهضة، فالشيخ راشد الغنوشي لم يفلح في إخفاء ملامح الرعب التي ارتسمت على وجهه، و التفسير الوحيد الممكن للأمر، أنه لم يتخيل ndash; و كذا عدد من صقور الورق المحيطين به ممن لم يجرح لهم اصبع في المواجهات السابقة- أن لعبة الحكم ستبلغ هذه الدرجة من الوعورة و الخطورة، و أن سيرة غلق الآذان و العيش في عالم آخر و السير على حافة الهاوية قد تنقلب فجأة إلى لعبة دم قاتلة غير مضمونة، و أن إشعال الحرائق الصغيرة بهدف إخافة الخصوم قد يفضي إلى إشعال حريق كبير يطال مشعله أولا.
و يتوقع المهتم بشأن الحركة الإسلامية الحاكمة في تونس، أن لا يرمي المتشددون داخلها المنديل بسهولة، فغالبية هؤلاء إما منفصلون عن واقع البلاد، يعيشون في جزر أتباعهم و أنصارهم الافتراضية، أو هم من تلك الفئة المهجرية المزايدة ممن لم يجربوا جحيم السجن أو العيش في ظل الأنظمة الاستبدادية و جاءوا إلى تونس quot;عزاباquot; محافظين على خط الرجعة في بلدان منفاهم القديمة، و سيكون من الإجرام تسليم قيادة الحركة للمزايدين و المتشددين ممن لن تقود توجهاتهم إلا لمزيد تعميق عزلة النهضة و المغامرة بمستقبلها و مستقبل الانتقال الديمقراطي و المسار الثوري و مصالح الأمة و الوطن، فما تمكن متشددون من قيادة حزب أو بلاد في كل التاريخ إلا كانت النتيجة كارثية و مدمرة.
و لا تتوقف مسؤولية مساعدة السيد حمادي الجبالي في إنجاح مبادرته الوطنية المتمثلة في تشكيل حكومة كفاءات مصغرة جامعة قيادة البلاد إلى إنهاء المرحلة الانتقالية سريعا و تنظيم انتخابات شفافة بإشراف دولي، على تجاوب و دعم قيادة حركة النهضة فحسب، بل على تجاوب سائر القوى السياسية و النقابية و الاجتماعية جميعا، إذ من الخطأ الاعتقاد بأن quot;الورطةquot; هي ورطة النهضة فقط، إنما هي ورطة الثورة و البلاد أيضا، كما سيكون خيانة عظمى توظيف شهادة شكري بلعيد الفاجعة لخدمة المجهول المتربص الراغب في انتكاسة المشروع الديمقراطي و عودة تونس إلى الزمن الاستبدادي.
و سيكون من الصواب الوطني المرغوب و المطلوب النظر إلى أن نتيجة الصراع الذي يخوضه السيد حمادي الجبالي ضد خصومه المتشددين داخل حركة النهضة، شأن وطني أيضا و ليست مجرد شأن حزبي داخلي كما قد يعتقد البعض، ممن قد يعتقد كذلك بأنه بالمقدور بناء الديمقراطية الناشئة دون مساهمة الإسلاميين، فالإسلاميون تيار خلق ليكون موجودا، تماما كما هو حال التيارات الأخرى من ليبراليين و دساترة (أتباع الحزب الحر الدستوري) و قوميين عرب و يساريين و غيرهم، و لن يكون بالمستطاع تنمية الديمقراطية إلا بدمقرطة هؤلاء جميعا، و تحويل علاقاتهم من حالة الصراع الايديولوجي العقائدي التي يعيشونها إلى حالة تعايش و قبول متبادل يقف فيها الصراع عند التنافس السياسي و الانتخابي.
و تجبر الرؤية الوطنية الديمقراطية النخب السياسية و الفكرية على أن لا يتخلوا عن الإسلام وقفا على الإسلاميين، و أن يعتبروا معركة دمقرطة و تحديث و تجديد الفكر الديني الإسلامي جزء من وظيفتهم النضالية، تماما كما يجب أن لا يوصدوا أبواب الحوار الوطني و العمل الديمقراطي أمام الإسلاميين الراغبين في المساهمة معهم في بناء الوطن، و أن لا يجنحوا إلى التعميم الذي يخدم عادة مصالح المتطرفين، الذين يمارسون بدورهم تعميم التكفير و التخوين ضد مخالفيهم و خصومهم الفكريين و السياسيين.
و لا يعدم كل باحث عن الوحدة الوطنية و نجاح الديمقراطية الكثير من الأدلة على أن جزء أساسيا من الامتحان الذي يختبر فيه الوطن، هو امتحان لحركة النهضة الإسلامية الحاكمة، و أن نتيجة كلا الامتحانين مرتبط بالآخر و مؤثر فيه، تماما كما سيكون نجاح خطوة السيد حمادي الجبالي في مبادرته الوطنية نجاحا في الآن نفسه للخط الوطني ضمن حركة النهضة و تمهيدا لانتصار الرؤية الهادئة المعتدلة و التوافقية داخلها.
و لا يشك عاقل في أن ذلك الخطاب الساذج و السطحي الذي تخيل أن معادلة الحكم بسيطة واضحة، و أن الغلبة الانتخابية أو العددية كافية لبناء المؤسسات و تحقيق الاستقرار و إمضاء التنمية، و أن نار الحكم ليست أشد و أقوى من نار المعارضة المقموعة، و أن نتيجة سنة واحدة من الحكم لم تكن سوى تعريض عشرين عاما من المحنة السوداء للضياع، و أن أربعة عقود من العمل السياسي و مآسي السجن و النفي و التهميش لم تكن كافية ليتعلم عدد كبير من قادة الحركة الإسلامية منها صعوبة حكم التونسيين و شراسة نخبهم و خصوصا مغامرة الاستفراد بسلطانهم..و منها أن تونس بعد اغتيال شكري بلعيد لن تكون تونس السابقة، و أن حكم الإسلاميين ربما يكون بهذا الاستشهاد قد انتهى قبل أن يبدأ بالمعنى التاريخي للكلمة؟
- آخر تحديث :
التعليقات