تشكل الغارة الإسرائيلية على مركز البحوث العلمية، في جمرايا غرب دمشق، تحولاً جديداً وفارقاً في الأزمة السورية المشتعلة منذ ما يقرب العامين، وهو تحوّل لابد أن تترتب عليه جملة من الإستحقاقات السياسية والعسكرية في المرحلة القادمة، إضافة لكونه تطور مدروس ومنسّق مع جهات دولية وإقليمية مؤثرة في الحدث السوري.
ولعلّ الأمر اللافت في هذا الإطار أن إسرائيل، وعلى مدار عامين من الأزمة، نأت بنفسها عما يجري في الداخل السوري، وتعاملت مع الحدث بعقل بارد وسلوك أكثر برودة، وذلك بالرغم من أن شظايا الأزمة قد طالتها أكثر من مرّة، إلا أن إسرائيل أصرت على تجاهل هذا الأمر وتبريد الشظايا عبر التعامل معها على أنها أحداث حصلت إما بالصدفة أو عن طريق الخطأ رافضة وضعها في سياق أمني عسكري يرتب عليها بلورة جملة إستراتيجية تجاه الوضع السوري وتطوراته.
وبإستثناء بعض إجراءات الحماية، كبناء السياج المكهرب على الحدود مع سورية والقيام ببعض المناورات العسكرية في الجولان، ظلّت إسرائيل تلعب دور المراقب الصامت لتفاعلات الأزمة السورية، وإن أصرّت على التذكير، بين الحين والأخر، على خطوطه الحمر المتمثلة في منع وصول أنواع من السلاح إلىquot; حزب اللهquot; أو إمكانية سيطرة الجيش الحر على مواقع الأسلحة الكيميائية، التي لابد أنها تراقبها وتعرف أمكنة تخزينها بوسائل رصدها الخاصة أو بالاعتماد على وسائل الرصد الأمريكي بهذا الخصوص.
ترى، مالذي تغير في مسار الحدث السوري وانعكس تالياً على الحسابات الإسرائيلية؟، ومادام ان إسرائيل لا يهمها من الحدث السوري سوى تجنيبها الارتدادات القاسية له، فما الذي تغير في ميدان هذا الحدث ودفع بإسرائيل إلى الخروج من حالة النأي بالنفس لتضرب في عمق هذا الحدث وأماكنه الحساسة جداً؟.
من المعروف أن مركز البحوث العلمية في جمرايا، وإن كانت له صفة مدنية باعتباره مركزاً علمياً، غير أنه من الناحيتين العملية والإجرائية مركزاً عسكرياً بإمتياز، سواء من حيث إدارته حيث يشرف عليه ضباط من الجيش السوري أو من حيث طبيعة مهامه التي تتركز في الغالب على القيام بتطوير نماذج من الأسلحة الروسية والصينية والكورية الشمالية والإيرانية، وخاصة الصواريخ بأنواعها وأحجامها المختلفة، فضلاً عن إشرافه على كافة برامج الأسلحة الكيماوية بالتنسيق مع quot;إدارة الحرب الكيماويةquot;، ويقوم على هذا العمل مهندسون وفنيون مقربون من النظام جرى إيفادهم لبعض الدول الغربية، مثل بريطانيا وفرنسا، للتخصص في مجالات الهندسيات الميكانيكية والكهربائية والزراعة والكمبيوتر وهندسة الإنشاءات، وعمل النظام على عزلهم في مساكن خاصة قريبة من مجمع البحوث في جمرايا.
وبالعودة للغارة، فثمة وقائع غريبة أحاطت بها، إذ يؤكد سكان المناطق القريبة من الموقع، في دمر والهامة ومعربة، أن العملية وقعت في منتصف الليل تماماً، وقد هزّت عشرة إنفجارات غير مسبوقة في شدتها المكان، ويشدّد السكان على أنهم لم يروا طائرات ولم يسمعوا هديرها، وأن ما رأوه في تلك اللحظات هو رشقات من الصواريخ مصدرها الجبال المحيطة بموقع المركز حيث تتوضع هناك كتائب وألوية الفرقة الرابعة، إحدى أهم فرق قوات النخبة السورية، ما دفع السكان إلى الإعتقاد بحصول إنشقاق في صفوف هذه الفرقة، او ربما محاولة لصد هجوم كتائب من الجيش الحر تسلًلت إلى هذا الموقع الحساس، وما زاد من حالة التشويش ما أعلنه التلفزيون السوري عن قيام مجموعة إرهابية بتفجير سيارة مفخخة في المكان.
غير أن الصمت الإسر ائيلي على العملية وعدم المسارعة في تكذيب الخبر يرجح ضلوعها المباشر بالحدث، وذلك قياساً بحدث سابق حصل في سورية نفسها، عندما أقدمت الطائرات الإسرائيلية على ضرب موقعquot; الكبرquot; بالقرب من دير الزور ولم تكشف إسرائيل مسؤوليتها عن الحادثة إلا بعد مرور سنوات عديدة، وأما بخصوص عدم رؤية السكان القريبين من الموقع المستهدف للطائرات المغيرة أو سماع هديرها فإن ذوي الإختصاصات العسكرية يعرفون بأن لدى إسرائيل انواع من الطائرات قادرة على ضرب الهدف من أماكن بعيدة جداً، وأما بخصوص قيام بعض كتائب الفرقة الرابعة بقصف المكان فالتقدير الأرجح هو الإشتباه بعملية إنزال في الموقع، وقد حصل الأمر ذاته في موقع quot; الكبرquot; حيث قامت إسرائيل بعملية مزدوجة قصف وإنزال، حصلت من خلالها على عينات من تربة الموقع لإثبات وجود عملية تصنيع أسلحة دمار شامل.
ولكن يبقى السؤال المعلق، ما الذي إستهدفته إسرائيل في عملياتها هذه؟، هل هي شاحنات كان يجري تحميلها في هذا الوقت المتأخر من الليل ليصار إلى إيصالها إلى أماكن محددة؟، وهل كانت إسرائيل على علم بوجهة هذه الناقلاتquot; البقاع اللبناني، طرطوس، مواقع عسكرية سوريةquot;؟، ام انه إستهدفت مخازن معينة في المركز كانت تحتوي على أسلحة معينة تعتقد إسرائيل أن من شأنها التأثير على أمنها؟، أم أن إسرائيل، وبناءً على تقديرات ومعطيات معينة، قامت بعمل إستباقي إستهدفت من خلاله أسلحة معينة تعرف جدواها وخطورتها ورأت أن الوقت قد حان لإستهدافها كي لا يستخدمها النظام ضدها أو حتى لا تقع بأيدي الجيش الحر أو حتى لا يتم إرسالها إلىquot; حزب اللهquot;؟.
قد لا يمكن التكهن بمعرفة النوايا الإسرائيلية ولا طبيعة تقديرات قادتها العسكرية، لكن خروج إسرائيل عن صمتها العسكري وإقدامها على مغامرة بهذا الحجم، لابد أن تكون وراءه معطيات مقلقة تتعلق برؤيتها لواقع الصراع في سورية وتطوراته في الأيام والأسابيع القادمة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يتوجب ربط هذا الإجراء بسياق عام تدور تفاصيله في البرين التركي والأردني وفي مياه البحور المجاورة، وخاصة وأنه يأتي تتويجاً لمناورات وتدريبات عسكرية ذات طبيعة خاصة، الأمر الذي قد يدفع إلى الإستنتاج بإمكانية تكرار هذا النمط من العمليات التي تهدف إلى إسقاط نظام الأسد عبر ضرب مراكز قوته الصلبة من دون الحاجة إلى خوض حرب كبرى في ظل مناخ التوتر والإنشداد الإقليمي والدولي؟.