لا يحلو لانصار الثورة السورية ومؤيدوها، إدراج ثورتهم في إطار ما يسمى بquot;الصراع السني- الشيعيquot;، إذ لم يخطر ببال هؤلاء أنهم يثورون ضد إستبداد نظام الرئيس بشار الأسد لأنه من طائفة أخرى، فالثورة إنطلقت ضد حالة ووضع وليست ضد أشخاص بعينهم، ودليل ذلك أن أول شعارات الثورة طالب بالتغيير والإصلاح، عطفاً على ذلك، فالثورة ومنذ البدايات ضمت كل أطياف المجتمع السوري وتلاوينه ولم تقتصر على طائفة واحدة، وإن كان من الطبيعي أن تكون مشاركة المواطنين الذين ينتمون للمكون السني هي الغالبة تناسباً مع أكثريتهم السكانية.
غير أن هذه الوقائع لن تعمر طويلاً في المشهد السوري، إذ سيمر وقت تنزاح فيه المعطيات لتشكل مسارات مختلفة للثورة، ذلك أن النظام، وفي سبيل بحثه عن خيارات للخروج من لأزمة وإنقاذ نفسه من مما إرتكبته الأجهزة الأمنية، فسعى إلى تخليق المارد الطائفي من تحت أظفاره إذ لم يسعى النظام إلى أي إنجاز في تاريخه بقدر سعيه الحثيث لإخراج المارد الطائفي من القمقم وإستدعاء كل شياطين التطرف.
ومنذ اليوم الأول راحت ماكينة إعلام النظام تتحدث عن إمارات سلفية وأمراء سلفيين وقاعدة، وعندما لم تنجح هذه الخطة في إثارة مشاعر الناس، عملت أجهزة النظام على تسريب فيديوهات وأفلام تظهر عناصر الأمن بلهجتهم العلوية وهم يهينون الرموز والأفراد، مَن صوّر الجنود وهم يحرقون المصاحف ويقولونquot; قتلناهمquot;، وسرب هذا التصوير ؟.
كان من الواضح أن النظام يستدرج الثورة لهذا النمط من الصراع الديني، ربما لإعتقاد رموزه أنه السبيل، ليس للخلاص من أزمته، وإنما لإستدعاء الدعم من أطراف النسق الطائفي الذي ينتمي إليه، وخاصة في ظل وجود تدخل قطري وسعودي ما يشكل معادلأ طائفياً يستند عليه النظام في دعواه.
ولتجهيز البنية اللازمة لهذا النمط الصراعي، عمل النظام على تدمير الركائز الأساسية للحراك السلمي والتي قامت على أسس الوحدة الوطنية ونبذ التفرقة والطائفية ورفض التدخل الأجنبي ومدنية الدولة السورية، وذلك عبر قتل وإعتقال وإخفاء وتهجير كل الرموز المدنية والعلمانية للثورة مع قيامه بإجراء بدا في حينها مستغرباً، وهو تفريغ السجون من معتقلي تنظيمquot; القاعدةquot; الذين قاتلو في العراق، وعناصر تنظيمquot; فتح الإسلام quot; وquot;جند الشامquot; الذين جرى إعتقال أغلبهم في الفترة مابين 2004 و2007 .
لم يطل الوقت كثيراً قبل أن تظهر للعلن تشكيلات إسلامية مقاتلة ذات الأيديولوجيا والفكر الإسلامي المتطرفquot; جبهة النصرةquot; و quot; الوية التوحيدquot; quot; وأحفاد الرسولquot;، وقد ظهرت هذه التشكيلات مع توجه الثورة نحو التسلح، وفي ظل إشتداد الحملة القمعية على المدن والأرياف السورية، في غفلة من ثورة السوريين الّذين كانت نكبتهم قد تضاعفت بفقدانها قادتها السلميين ووقوعها تحت كثافة نيران الأجهزة الأمنية التي لاترحم، ولهاث البشر خلف تأمين سلامتهم والحد الأدنى من قوتهم.
لا يتسع المجال لسرد كل الوقائع والحيثيات التي تواترت إثر ذلك، غير أن الحيثية الأهم في كل هذا السياق نجاح النظام في إستدعاء دعم نسق سياسي طائفي إقليمي لمساندته، مقابل تشكل جبهة من جماعات وتنظيمات مقابلة ضده، وخسارة كل دعاة المدنية والسلمية والعلمانية وتراجعهم إلى صفوف متأخرة في قدرتهم على التأثير بالحدث السوري.
ولكن الواقع يفترض التذكير بحقيقة أن النظام لم يخترع سياق ما يسمى بquot; الصراع السني- الشيعيquot;، فهو سياق موجود ومؤسس، وإن كان لايزال الجزء الأكبر منه يمكث في إطار الحيز النظري، وأن تجلياته ظلت محدودة إن على هامش الأزمة العراقية أو في بعض الأحداث المتفرقة في لبنان، غير أن هذا السياق ظل ينمو ويكبر والأهم أنه كان يبحث عن حيز مكاني يشتغل فيه بكامل حريته وطاقته وعنفوانه أيضاً.
لا شك أن سورية توفر بيئة مناسبة لهذا النمط من الصراع، ثمة مواصفات وميزات عدة تجعلها أرضاً مغرية لذلك، فهي بعيدة قليلاً عن مراكز المدن الرئيسية لهلالي الصراع، كما ان لديها فائضاً سكانياً كبيراً يضمن دوام تشغيل مكنة الصراع لفترة طويلة، وفوق هذا وذاك ترضي أوهام أطراف الصراع بقدرة كل طرف على إنهاك الطرف الأخر على الأرض السورية...سورية لسنين قادمة أرض الموت والنزوح، فقط مطلوب تجهيز مخيمات تتسع لملايين البشر.